من العجز… إلى القرار؟

بهدوء وتدبّر
بقلم: محمد عثمان الشيخ النبوي
من العجز… إلى القرار؟
رأي : سودان سوا
كم كتبنا، وأسلنا من مدادٍ، لا أقول لبيان ما هو معلوم، ولا لإثبات ما صار بديهةً عالمية، بل للتذكير والتعجب من بطء الخطى نحو ما لا يحتاج إلى بيان. فالكلام عن وجوب الإسراع في تبنّي خطوات محددة نحو النهضة لم يعد اجتهادًا فكريًا ولا ترفًا تنظيريًا، بل ضرورةً بدت كالشمس، تراها كل الأمم وتسير بها من الاضطراب إلى الاستقرار، ومن الفقر إلى الاستثمار الذي يجلب التنمية والازدهار. وما يدعو إلى الدهشة أن يظل السودان وحده في مقعد الانتظار، يتأمل ما تحقق حوله، وكأن الفعل معجزة لا قرار.
يقف السودان اليوم على أعتاب فرصة تاريخية غير مسبوقة للخروج من دوامة الأزمات التي طال أمدها، وما تزال الأقدار تمنحه بين الحين والآخر فرصة جديدة لاختبار إرادته في البناء. ومع كل ما يمر به من تحديات، فإن طريق النهضة ليس غامضًا كما يتوهم البعض، بل ماثل أمامنا بوضوح في ثلاث ركائز لا غنى لإحداها عن الأخرى: التحرير الاقتصادي الشامل، والحوكمة الرشيدة، والرقمنة المتكاملة. هذه الثلاثية إن اجتمعت صنعت دولة حديثة تسير على خطى الأمم الناجحة، وإن غابت ظل البلد في الفوضى و البطء و الفساد.
فالتحرير الاقتصادي هو الذي يفتح طاقات السوق ويكسر قيود البيروقراطية والاحتكار ويجذب الاستثمارات، والحوكمة هي التي تضع القواعد وتضبط الأداء وتضمن العدالة والمساءلة، أما الرقمنة فهي التي تنقل تلك القواعد من بطون الورق إلى أرض الواقع بأدوات ذكية ومنصات حديثة. فإذا وُجد التحرير بلا حوكمة تحوّل إلى فوضى، وإذا وُجدت الحوكمة بلا رقمنة صارت شعارات بلا تنفيذ، أما إذا غابت الثلاثة معًا غابت الدولة نفسها.
ولن يتحقق هذا البناء بقرارات سياسية آنية أو شعارات عامة، بل بتشريعات ملزمة تفرض على الدولة ومؤسساتها أن تُدار بالشفافية والعدل والعقل الرقمي. من هنا تنبع الحاجة إلى خارطة طريق تشريعية واضحة، تُصدر فيها الدولة رزمة واحدة من القوانين خلال عام واحد لتؤسس فعليًا لعصر جديد من الإدارة الذكية والاقتصاد الحر النزيه.
إن أول ما تحتاجه الدولة هو قانون يفرض الشفافية والإفصاح العام، بحيث لا يبقى المال العام في الظلام، بل تُنشر كل التقارير والعقود على منصة مفتوحة يرى من خلالها المواطن أين تُصرف موارده. فغياب هذا المبدأ هو الذي جعل الفساد يترعرع في السرية ويحول المال العام إلى غنيمة. ومن لا يسعى لإقراره إنما يفعل ذلك إما لجهله بخطورة التعتيم، أو خضوعه لمصالح تخاف من انكشافها.
ثم يجيء قانون حماية البيانات الشخصية الذي يصون حق المواطن في خصوصيته ويمنع استغلال بياناته أو بيعها. فحين تُهمل هذه الحماية يتحول المواطن إلى سلعة، وتضعف الثقة بين الناس والدولة، وتتدهور بيئة الاستثمار. ومن يعارض هذا القانون لا يُعذر بجهله، ولا يُفسر موقفه إلا بخضوعه لنفوذ من يجعل من المعلومات رأس مالٍ لتجارة خفية.
وتتأكد الحاجة إلى قانون يمنع تضارب المصالح، فيُلزم كل مسؤول بالإفصاح عن ذمته المالية ويمنع عنه اتخاذ أي قرار فيه منفعة له أو لأقاربه، لأن غياب هذا المبدأ يقتل روح العدالة ويحوّل المنصب العام إلى بابٍ للثراء الشخصي. ومن لا يعمل على إقراره لا يمكن تبرير موقفه إلا بجهل خطير بخطر المحسوبية أو خضوع لمنظومة فساد تحمي نفسها.
وكذلك لا نهضة بلا نظام مشتريات وعقود عامة تُدار إلكترونيًا بشفافية تامة، تُطرح عبر منصة وطنية مفتوحة يرى من خلالها الجميع كيف تُدار المناقصات وكيف تُختار العروض. فالدول التي سبقتنا حين طبقت هذا المبدأ خفّضت إنفاقها العام ورفعت ثقة المستثمرين. أما من يصر على إبقاء العقود في الغرف المغلقة فهو إما لا يدرك كم تُهدر من الأموال، أو يخاف من فقدان امتيازات فاسدة.
وتتسع الرقابة حين يكون لكل مواطن الحق في الحصول على المعلومات من أي جهة حكومية، فالمعرفة قوة، والجهل بابٌ مفتوح للفساد. الدول التي تحترم نفسها لا تخاف من إتاحة المعلومة، لأن من يخفيها هو الذي يخشى المحاسبة. ومن يعطل هذا الحق الواضح إما يجهل دوره في بناء الثقة بين الدولة وشعبها، أو يريد عمداً استمرار الغموض ليتستر به على خلله.
ولأن العدل هو عماد الدولة، فإن استقلال القضاء ورقمنته ضرورة لا ترف، لأن العدالة البطيئة ظلم مقنّع، لذلك فإن إصلاح القضاء وربطه بالمنظومات الرقمية ليس شأنًا فنيًا بل قضية بقاء. ومن لا يعمل لذلك يشارك في إطالة عمر الظلم، عن جهل أو تبعية.
كما لا يُبنى نظام نزيه دون قانون يحمي المبلّغين عن الفساد ويكافئهم، فهؤلاء هم جنود الدولة الخفيون الذين يكشفون ما يخفى على الأجهزة. إن غياب الحماية عنهم يجعلهم يصمتون خوفًا، ويفسح الطريق للفاسدين. ومن يرفض هذا المبدأ يخاف من صوت الحقيقة أو يخضع لمنظومة تستمد قوتها من إسكات الشرفاء.
وإذا أردنا أن يعرف الشعب أين تُصرف موارده، فلابد من موازنة مفتوحة تُعرض أرقامها في جلسات علنية بلغة بسيطة، لأن المال العام ليس ملكًا لأحد، بل أمانة في أعناق الجميع. ومن يخشى هذا الانفتاح إنما يخاف من فضح سوء التدبير أو تضارب المصالح الذي اعتاد عليه.
ثم يأتي جوهر التحول كله: الهوية والتوقيع الرقمي، الركيزة التي تتيح للمواطن أن ينجز كل معاملاته دون وسطاء أو رشاوى أو أوراق متآكلة. فمن دونها تبقى الدولة رهينة الفوضى الورقية. من يعطل هذا التحول يجهل أن الرقمنة هي أداة العصر أو يخضع لمراكز نفوذ تستفيد من بقاء التعطيل.
وأخيرًا، لا يمكن للاقتصاد أن يكون حرًا وعادلاً في آنٍ واحد إلا إذا عُرف من يقف وراء كل كيان تجاري، لا للتدخل في ملكيته، بل لضمان ألا تُستغل الواجهات لتضليل النظام العام أو التهرب من العدالة. فحين يُخفي بعضهم هويته خلف شركات ظاهرها قانوني، قد يُمارس من خلالها تضارب مصالح أو تهربًا ضريبيًا أو تمويلاً خفيًا يناقض روح المنافسة العادلة. إن الشفافية في الملكية لا تُقيد حرية السوق، بل تحميها من الفساد المقنّع الذي يتسلل من بين أوراق الشركات. ومن يعارض هذا المبدأ إما يجهل أنه صمام أمان للتحرير ذاته، أو يخضع لمصالح لا تزدهر إلا في الظلام.
هذه المبادئ مجتمعة ليست تنظيرًا، بل واقعٌ مجرّب في عشرات الدول التي انتقلت من الاضطراب إلى الاستقرار، ومن الفقر إلى الاستثمار الذي يجلب التنمية والازدهار، لأنها جعلت الشفافية والرقمنة عماد الحكم لا شعاره. ومن العجيب أن يظل السودان يتحدث عنها في الندوات بينما تتجنبها دوائر القرار، وكأنها ترف فكري لا ضرورة وجودية.
لقد كتبنا في هذا الشأن عشرات المقالات، ولعل غيرنا كتب مثلها، ومع ذلك ما زالت القوانين غائبة والقرارات مؤجلة، وكأن هناك من يرى في غيابها حماية لنظامه لا لوطنه. ولا يمكن تفسير ذلك إلا بأحد أمرين: جهلٌ بحقيقة أثر هذه المبادئ على حياة الناس والدولة، أو خضوعٌ مرير لنفوذ من لا يريد لهذا البلد أن ينهض كي تبقى مصالحه آمنة على حساب أمة بأكملها.
إن بناء الدولة الحديثة لا يحتاج إلى معجزة، بل إلى إرادة. وما دام الطريق واضحًا كضوء النهار، فإن التنفيذ لا يعوزه سوى الصدق والعزم. عندها فقط ستُدار الدولة بالعدل والذكاء معًا، تضبطها الحوكمة، وتفتح الرقمنة أبوابها، ويحرر الاقتصاد طاقات شعبها، ليُشرق السودان في مكانه الطبيعي بين الأمم.
إن المسألة اليوم لم تعد في وضوح الرؤية، بل في شجاعة القرار. فالعالم لا ينتظر المترددين، والأمم التي سبقتنا لم تكن أغنى ولا أكثر موهبة، لكنها قررت أن تبدأ، ثم صححت مسارها وهي تمضي. إن السودان لا يحتاج إلى خطط جديدة بقدر ما يحتاج إلى عقلٍ يُنفذ ما هو أمامه بجرأة وثقة، ويُطلق طاقات شعبه دون خوف من التغيير. فالتاريخ لا يرحم من عرف الطريق ثم تلكأ عند بابه.