ظل الجناح / كتب : عماد حسن الخرطوم : بين حملة إعادة ضبط الأمن وتأسيس هوية حضرية جديدة

ظل الجناح / كتب : عماد حسن
الخرطوم : بين حملة إعادة ضبط الأمن وتأسيس هوية حضرية جديدة
■تعيش العاصمة السودانية الخرطوم لحظة فارقة في تاريخها الحديث، إذ انطلقت مؤخرًا حملة أمنية وصفت بأنها الأقوى منذ سنوات، بقيادة مباشرة من والي الولاية الأستاذ أحمد عثمان حمزة، لإعادة فرض هيبة الدولة وكسر شوكة الفوضى الأمنية التي ظلت تفتك بجسد العاصمة المتعب.
■لسنوات، كانت الخرطوم مرآة لانعكاس الفوضى، حيث تآكل القانون، وغابت السلطة، وامتلأت الشوارع بالعربات غير المرخصة، والسلاح غير المشروع، وانتحل البعض صفات رجال الأمن في وضح النهار. هذه السيولة الأمنية لم تكن مجرد مشهد عبثي، بل تهديدًا صريحًا لسلامة المجتمع وأمانه، وسببًا مباشرًا لهجرة الكفاءات وانعدام الطمأنينة.
■ لكن المشهد انقلب الآن.
■”هيبة الدولة أولى من كل شيء”، بهذه العبارة الصريحة أعلن والي الخرطوم بداية العهد الجديد. وفعلاً، تحولت هذه الكلمات إلى خطوات عملية تمثلت في حملات ميدانية ضخمة، ومداهمات لأوكار الجريمة، وضبط مخالفات كانت قد أصبحت روتينًا يوميًا. تم منع الأجانب المخالفين، ومصادرة المركبات غير المرخصة، وفرض الرقابة على حمل السلاح.
■ولأول مرة منذ زمن، يشعر المواطن أن إرادة الدولة باتت حاضرة، ليست فقط في البيانات الرسمية، بل في الميدان، في الطرقات، في نقاط التفتيش، في الليل والنهار.
لكن، ولأن الأمن لا يُبنى بالحملات وحدها، فإن هذه اللحظة الذهبية يجب ألا تذهب هدرًا. فاستعادة النظام ينبغي أن تُستتبع بإعادة ترتيب المشهد الحضري للعاصمة، وأن تُغرس في لا وعي المواطن رمزية الانضباط من خلال المظهر العام، في كل تفاصيل المدينة:
1. الهوية البصرية للولاية: لا بد من توحيد المظهر البصري للمؤسسات الحكومية، من اللافتات إلى الزي الرسمي، بحيث يشعر المواطن أن هذه المدينة تُدار من مركز موحد يُحاكي نظم الحكم الحضري. الخرطوم بحاجة إلى “هوية حضرية”، تحترم فيها الألوان، والخطوط، والعلامات، بنفس احترامها للقانون.
2. زي موحد لطلاب المدارس: تغيير زي طلاب المدارس إلى شكل حديث وموحد يعكس الانتماء الحضاري للخرطوم، ويعيد الهيبة للمنظومة التربوية، ويزرع في النشء رمزية النظام منذ الطفولة.
3. تحديث مركبات الشرطة: آن الأوان لاستبدال سيارات الشرطة ذات الدفع الرباعي المفتوحة “البيك أب”، بسيارات صالون مغلقة ومكيفة، مراعاة لبيئة الشرطي ومزاجه في ظل حرارة العاصمة. تصميم سيارات الشرطة يجب أن يكون قويًا وجاذبًا، يثير الانطباع بالهيبة، ويرسم حضورًا مميزًا في الفضاء العام.
4. منع استخدام سيارات البيك أب داخل المدينة: يجب أن تقتصر استخدامات هذه السيارات على المهام الاستثنائية وفي أطراف الولاية فقط. وجودها في وسط المدينة يخلق صورة فوضوية ويستدعي ذاكرة الحرب لا صورة الدولة.
■ما يحدث الآن ليس مجرد حملة أمنية. بل هو إعلان عن ميلاد العاصمة الجديدة، حيث النظام يعيد ترتيب كل شيء: الأمن، التعليم، المظهر، والهوية. الخرطوم لا تحتاج فقط إلى مكافحة الجريمة، بل إلى مشروع حضاري يعيدها إلى موقعها كعاصمة تمثل السودان في الداخل والخارج.
■ وما لم تتحول هذه الحملة إلى رؤية متكاملة تشمل الأمن والمظهر والبنية الاجتماعية، فإن لحظة القوة قد تضيع وسط زحام التحديات.
■ما بدأه والي الخرطوم هو الخطوة الأولى في طريق طويل. لكن لا بد أن نكمل الطريق بتغيير لغة المدينة، وإعادة رسم ملامحها، والاهتمام بكل تفاصيلها الصغيرة قبل الكبيرة. فالدولة لا تُبنى فقط بالقانون، بل بالمظهر، والهوية، والانضباط، والرمزية.
■ولتكن هذه الحملة الأمنية بداية لعهد جديد… عنوانه: الخرطوم مدينة تستحق الحياة.