محمد طلب يواصل في سرد قصته الحزينة / ماسأة العيلفون/هل من استراحة بعد الاستباحة(8)*

*ماسأة العيلفون/هل من استراحة بعد الاستباحة(8)*
كان نهار الجمعة 6 اكتوبر الذي يفترض ان تملؤه السكينة والروحانيات وتغشاه الرحمة والتواصل لقد كان كله شرور… الم اقل لكم انها (جمعة اللا جمعة) التي خلت من الرحمة ومظاهرها فلا قرأن ولا اذان والي اليوم لم تقم صلاة الجمعة بالعيلفون وقد مر اكثر من شهر والمأذن والقباب تقف بلا شموخ حينها تذكرت نديهة امي (الحاجة بت جاد الله) رحمها الله عند الشدائد تنده جدها (ابو فركة) كحال كل اهل العيلفون في زمانها السمح (يا ابوي الشيخ ادريس بجاه مولاك تلحقنا وتفزعنا.. انقر جرسك واركب فرسك) لكن لا اجراس تقرع اليوم ولا افراس تشد للنزال الروحي او المادي وانتهي اهل النديهة وراحوا لربهم بفطرتهم و ارواحهم التقيةوالنقية التي تقدم (بجاه مولاك) ورحلوا قبل ان يصير الدين في بلادنا صنوف تكفر صنوف وتحاربهم بالبنادق والسيوف وربما يستغرب البعض الان مفردة (النديهة) ولا ادري حقاً هل يمكننا نداء الارواح الصالحة التقية كي تساعدنا وقت المحن… لا ادري… لكني اعلم اننا الان نعيش بين ارواح شريرة وحية انه زمن نداءات البل والجقم في زمن السجم والرماد
في تلك الجمعة كنت اشاهد عمليات النهب والسرقة بام عيني وكميات مهولة من المواتر تقوم بذلك وكم طرقوا الباب وتسوروا الحائط علينا وكنا نخرج لهم فيعتذرون انهم( فاكرين البيت فاضي) يا له من عذر قبيح لكنه يستوجب الوقوف عنده وتأمل كيف كان سيكون الحال مختلفاً لو لم يغادر الناس منازلهم.. لا ادري… ولكن هناك اختلاف… لقد شاهدت دخولهم الي بيوت كل جيراني الذين غادروا ليلة الجمعة او في صباحها… قضينا كل النهار علي ذلك الحال ويبدو ان هناك قرارات في البيت كانت تتداول خلف ظهري وانا اجلس بالخارج حيث الخوف الذي كان يسيطر علي اهل البيت والوالدة ومن معنا جعلهم يتداولون امر الخروج من حي الامتداد اعتقاداً منهم ان الخطر بحي الامتداد وشمال العيلفون فقط وهم لا يدرون ان العيلفون قاطبة قد تم اقتحامها و استباحتها كما ان بعض اهلنا الذين اتت بهم ذات ظروف الحرب للاحتماء بالعيلفون و واجهواَ ذات القساوة علموا انها النهاية ولهم تجربة فخافوا علي عروضهم التي اتت بهم الي هنا… و اصبحوا يبعثون لي بعض الموجودين لاقناعي بضرورة الخروج (لبيوتنا الوراء) وكنت اقول لهم ان العيلفون كلها واحد الان استولت عليها قوات الدعم السريع.. كان بريق الامل يداعب مخيلاتهم وانقطاع التواصل لا يفيدهم بما يحدث في بقية الاحياء الا ان ما شاهدته مساء الخميس ونهار الجمعة يحمل دلالات السقوط المريع وكنت مصراً علي البقاء بالبيت وعدم الخروج والدموع والرجاءات لم تكسرني وقلت لهم اذهبوا واتركوني هنا انا واولادي الا ان اولادي نفسهم وامهم كانوا يرتعدون من الخوف والرعب الذي اصابهم ووالدتهم تبكي وتقول (البنات البنات) فكنت اهدي من روعها احياناً واصرخ حيناً قائلاً لهم ربهم سيحميهم لا تجزعوا فامره بين الكاف والنون
ولم افطن ان الجميع كانوا يجزعون لحالي وانا المريض ونصف جسدي معتل.. وكنت افكر في ان خروجي معهم سوف يثقلهم ويقلل من سرعة حركتهم في رحلة مجهولة الامد
الا انني اخيراً انكسرت دامعاً منتحباً امام رجاءات الوالدة المكلومة ودموعها الدامية وهي تبكي حالنا وحزننا علي وفاة والدنا الذي مر علي وفاتها شهر واجتمعت علينا المصائب التي يقولون انها( لا تأتي فرادي) والحمد لله..
كفكفت دموعي وقلت لأمي وانا احضنها سوف اخرج معكم لكن تاكدي انني لن اعود مرة اخري…
كنا مجموعة كبيرة جدا من كبار السن والنساء وبعض الرجال والضيوف والاطفال ومن اتت بهم لنا ظروف الحرب من الاهل والاحباب.. حينها تذكرت والدي وحمدت الله علي رحيله قبل ان يري ما يحدث لنا الان ولو كان موجوداً لتقطع قلبه ارباً ارباً فهو رقيق القلب قريب الدمع وغريبه… واتجهنا نحو (الحلة وراء) يدفعوني بالكرسي المتحرك لبيت جدنا الذي ولدنا به وحيث مراتع الطفولة و الصبا حتي صرنا رجالاً البيت الذي عشت به معظم سنوات عمري في اسرة ممتدة ومعظم ذكريتنا هناك في (الحي الامامي جوار الاسبتالية) كما تغني الجاغريو ذلك الدار العتيق الذي حلت عليه نوازل الدهر وتقلبات الايام هناك ولدت وعشت ومنه اغتربت مكافحاً وعدت اليه في اجازتين فقط ثم انتقلنا لدارنا الحالي الذي نخرج منه الان للمجهول و اللامكان يا لها من فاجعة.. …
سلمت اختي كل الاموال التي خلفها والدي و اوراق ومستندات كل ما تركه رحمه الله…لاني كنت انوي اللا اكون ثقيلاً علي هذه المجموعة التي جلها من كبار السن والمرضي وكنت اعلم انهم لو وجدوا مركبة لن يتركوني خلفهم وانا لن اترك زوجي واولادي وسوف تتعقد الامور وليس هناك مركبة او حتي اثنتين سوف تحمل هذا الكم من الاسر لذا كتمت الامر في نفسي وقلت دعهم يذهبوا والله كفيل بي…..
خرج الجميع يحدوهم امل النجاة وعندما رأتنا مجموعات الدعم السريع الكثيفة واسلحتهم المخيفة صاروا يتجهون عكس اتجاهنا دون ان يحدثونا.. انهم يتجهون نحو المنزل الذي اخليناه.. وا اسفااااه… وعندما اقتربنا من بيوتنا القديمة وجدت نفسي امامي منزل اصهاري بيت مولانا (عبد الرحيم صباحي) فاستوقفتهم وقلت لهم انا واولادي سوف نبيت هنا مع اهل زوجتي ونتقابل الصباح ان شاء الله…. طرقنا الباب بقوة ولا اجابة امرت ابني ان يتسور الحائط (انها ايام التسور) ويفتح الباب وليته لم يفتح لقد تم نهب البيت تماماً الابواب مكسرة والاشياء مبعثرة ومظاهر الحياة منعدمة تماماً والبيت يبدو وكانه مهجور لسنوات هل هذه ذات الدار التي كانت تضج بالحياة وخرج منها اعلام للعيلفون والسودان في مجالات مختلفة يا تري ماذا حدث هنا؟؟ السؤال الذي لم نجد له اجابة (وخيالنا يودي ويجيب) ونلحق ذلك بالدعوات وان يكون اهل الدار بخير.. مر كل ذلك وانا علي الكرسي المتحرك لم تاخذ عجلته دورة واحدة نحو الداخل وزوجتي تبكي وهي لاتدري ماذا حدث لاهلها واين هم … كان وقتها اهلي قد وصلوا بيت جدي وانا اراهم امامي.. لم تطاوعني نفسي اللحاق بهم وبكاء الاطلال هناك توجهنا الي بيت (عطرون) القريب جداً فكلنا اهل ذاك الحي العتيق انه بيت جد زوجتي لامها حيث حبوبتها وخالاتها هناك.. دلفنا مثقلين للداخل الحمد لله ما زال بالبيت حياة وهنا اطفال يلعبون ويبتسمون فهذه (نوشة) وهذا (بوشة) و(دوسة) وشئ من الامل يداعب خيالهم رغم صوت القصف والنيران والصواريخ الذي تتخلله ضحكاتهم البرئية فقد اعتادوا علي تلك الاصوات وتالفوا معها وصارت بينهم علاقة ما لا ادري ما هي ترجمتها في عقولهم الغضة وبراءتهم التي لم تخالطها بعد شرور دنيانا….
قضينا هناك ليلتين نعود لتفاصيلهما التي قادتنا لرحلة طويلة ومضية جبنا فيها كثير من مدن السودان والقري والفيافي…… يتبع
سلام سلام
*النازح واللاجئ المشرد الذي ذاق ما ذاق… فاقد الماوئ وكاره النفاق… منتظر الاتفاق في ظل اللا اخلاق.. و ارواح تزهق و دماء تراق… والامر لله الحي الباق*
محمد طلب