أمران مرعبان في أسبوع واحد: تكفير بلا خطام وتشريع بالرؤى والأحلام!!”

أمران مرعبان في أسبوع واحد: تكفير بلا خطام وتشريع بالرؤى والأحلام!!”
بقلم : محمد عثمان الشيخ النبوي
في ظرف أسبوع واحد فقط، شهدت الوسائط السودانية ضجتين متتاليتين تكشفان عن اختلالٍ مقلق في ميزان الفهم الديني والتعامل مع الشأن العام. الأولى تمثلت في التسرع بتكفير مسؤول كبير بالدولة واتهامه بالفسق والضلال ورشقه باللعنات، والثانية في تقديس رؤيا منامية مزعومة، قيل إنها أوصلت أمرًا مباشرًا من النبي صلي الله عليه وسلم يستوجب تنفيذًا سياسيًا وعسكريًا في واقع الأمة اليوم.
هاتان النازلتان، رغم اختلاف طبيعتهما، يجمعهما خيط واحد: الخروج عن منهج الشرع والعقل في التعاطي مع ما يُعد من أعظم القضايا، سواء أكان تكفيرًا لمسلم، أم إلزامًا للأمة برؤيا منامٍ لا يُحتج بها شرعًا.
في الحالة الأولى، طفق بعض الناشطين والدعاة يتداولون وصفًا قاسيًا من عالم شهير لمسئول سوداني، من أنه “من أضلّ الناس وأفسقهم”، بل وأنه لا يعبد الله، وهي أوصاف أطلقها دون سندٍ شرعي أو دليلٍ موثوق. وكأن قاعدة “البينة على من ادعى” قد نُسيت، أو كأن تكفير الناس صار لعبة مباحة على ألسنة المتحمسين، دون ورع أو تروٍ أو خوف من الله. وتداولها الناشطون دون أن يتبينوا وكان قاعدة (يٰٓاَيُّهَا الَّذِيْنَ اٰمَنُوْٓا اِنْ جَاۤءَكُمْ فَاسِقٌۢ بِنَبَاٍ فَتَبَيَّنُوْٓا اَنْ تُصِيْبُوْا قَوْمًاۢ بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوْا عَلٰى مَا فَعَلْتُمْ نٰدِمِيْنَ ) وكان هذه القاعدة قد سقطت هي الأخرى .ومثلها كذلك (يٰٓاَيُّهَا الَّذِيْنَ اٰمَنُوْٓا اِذَا ضَرَبْتُمْ فِيْ سَبِيْلِ اللّٰهِ فَتَبَيَّنُوْا وَلَا تَقُوْلُوْا لِمَنْ اَلْقٰىٓ اِلَيْكُمُ السَّلٰمَ لَسْتَ مُؤْمِنًاۚ تَبْتَغُوْنَ عَرَضَ الْحَيٰوةِ الدُّنْيَا ۖفَعِنْدَ اللّٰهِ مَغَانِمُ كَثِيْرَةٌ ۗ كَذٰلِكَ كُنْتُمْ مِّنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللّٰهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوْاۗ اِنَّ اللّٰهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُوْنَ خَبِيْرًا) .
والنبي صلي الله عليه وسلم قد حذّر تحذيرًا شديدًا من إطلاق وصف الكفر على مسلم، فقال:
“من قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما” (رواه البخاري ومسلم)،
وفي القرآن:
﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا﴾ (الأحزاب: 58).
إن التسرع في الرمي بالكفر والفسق دون تثبت، هو جناية على الدين، وجناية على المجتمع، لأنه ينسف كل أواصر الثقة والتماسك، ويفتح باب الفتنة والاقتتال والتكفير المتبادل. ولا يثبت حكم على شخصٍ ما بالكفر أو الفجور، ما لم يُظهر قولًا أو فعلًا يناقض أصل الدين، وثبت عليه بالبينة، وخضع لضوابط الشرع في هذا الباب.
أما النازلة الثانية، فقد كانت أكثر غرابة. إذ نقل أحد الدعاة أنه رأى النبي صلي الله عليه وسلم في المنام، وأنه أمره بخطوة تفاوضية تجاه العدو الذي يقاتله الجيش، ثم بنى على هذه الرؤيا إلزامًا شرعيًا للناس والجماعات، وكأن ما رآه وحيٌ يجب اتباعه.
لا ريب أن رؤية النبي صلي الله عليه وسلم في المنام حق، إن رُؤي على صورته الصحيحة، كما ورد في الحديث:
“من رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل بي”،
لكن هذه الرؤى لا يمكن أن تكون مصدرًا للتكليف أو التشريع، ولا يجوز أن تُلزِم الأمة بشيء. فالوحي قد انقطع، والدين قد كمل، والشرع لا يتغير بتجربة منامية مهما كانت صادقة.
بل إن أخطر ما في هذا الأمر، هو أن تُتَّخذ رؤى المنام وسيلة لفرض رأي على الأمة، أو لمصادرة القرار السياسي والعسكري، أو لعرقلة جهود تُبذل في واقع دموي بالغ الحساسية، بحجة أن النبي صلي الله عليه وسلم وجه بخلاف ذلك في المنام.
لقد أجمع أهل العلم أن الرؤى لا تُنشئ حكمًا شرعيًا، ولا تنسخ نصًا، ولا توجب على غير صاحبها شيئًا. بل إن الرؤيا، حتى وإن صحت، فهي تخص صاحبها وحده، ولا يُحتج بها في دين ولا دنيا. ومجرد زعم أحدهم أنه رأى النبي صلي الله عليه وسلم يوجهه لفعلٍ ما، لا يُلزم لا الدولة ولا الجيش ولا الناس، بل قد يكون بابًا من أبواب الفتنة والادّعاء الباطل.
وهنا لا بد من التأكيد الجازم أن ما نعرضه من نقد لهذين الاتجاهين لا يُراد به بحالٍ من الأحوال الطعن في ذمة أو دين أو خلق من قال بهما، سواء من خاض في التكفير والتفسيق بغير ضوابط، أو من حمل الرؤى المنامية على معنى التكليف والإلزام الشرعي. فبغض النظر عن حال الأشخاص، ولو كانوا ممن عُرفوا بالصلاح أو العلم أو حسن النية، فما صدر عنهم هنا خطأ ظاهر، وهم في هذا الموضع مدانون شرعًا، وقد وجبت توبتهم، ووجب كفُّ أيديهم عن هذا المسار، ولزم أهل العلم والغيرة بالأخذ على أيديهم نصحًا وتذكيرًا وإنكارًا وتقويمًا.
ومن أصابه ضرر خاص أو عام من أي من الاتجاهين، فإن له في الشرع السبيل المشروع لاسترداد حقه، سواء بالعفو احتسابًا، أو بالمطالبة بإنصافه وفق ما أباحه له الشرع من وسائل.
وهكذا، في كلتا الحالتين، نحن أمام انحراف في الفهم، وغلو في التديّن، إما عبر التساهل في تكفير مسلم بلا بيّنة، أو عبر تأليه منامٍ وجعله حاكمًا على الواقع والعقول.
إن أخطر ما يواجه أمتنا اليوم ليس فقط العدو الخارجي، بل الجهل الذي يتدثر بثوب الدين، والغلو الذي يتسلل باسم الغيرة، والهوى الذي يختبئ خلف لافتات الحماسة. ولا سبيل للنجاة من هذا كله إلا بالعودة إلى ميزان الوحي والعقل، والاحتكام إلى العلم والضوابط الشرعية، وإمساك اللسان عما لا علم فيه.
فلا يجوز أن تُقاد أمةٌ من بوابة منام، ولا أن يُكفّر مسؤولٌ من إشاعة كلام. إننا أمة الكتاب والسنة والحكمة لا أمة المنامات والمهاترات والبدعة.
اللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه.