التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي: (8 من 13) الأمن السيبراني والسيادة الرقمية

بهدوء وتدبّر
بقلم: محمد عثمان النبوي

التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي: (8 من 13)
الأمن السيبراني والسيادة الرقمية

لم تعد الجيوش وحدها هي التي تحمي الدول، ولا الحدود البرية والبحرية والجوية وحدها هي ميدان الصراع، فهناك حدود جديدة لا تُرى بالعين لكنها لا تقل خطرًا عن أي سلاح: الحدود الرقمية. وفي عالم يعتمد على البيانات في كل تفصيل، يصبح الأمن السيبراني ليس مجرد حماية تقنية، بل مسألة سيادة وطنية وشرط بقاء للدولة الحديثة. فمن دون أمن سيبراني حقيقي، يمكن لأي دولة أن تُشلّ بضغطة زر، وأن تتوقف مؤسساتها، وأن تُسرق بياناتها، وأن تُدار مواردها من وراء حدودها دون أن تشعر، وهذه ليست مبالغة بل وقائع موثّقة في تقارير الاتحاد الأوروبي والـNIST والأمم المتحدة، بعد سلسلة هجمات أثبتت أن القوة الرقمية قد تُحدث ما تعجز عنه الجيوش في ساعات.

ففي عالم اليوم، الهجمات السيبرانية ليست مجرد محاولات عبثية يقوم بها أفراد، بل أصبحت صناعة كاملة تقودها مجموعات منظمة وأحيانًا دول، تمتلك أدوات قادرة على اختراق شبكات دولية وإسقاط أنظمة حساسة. لقد استطاعت هجمات من نوع “WannaCry” أن تشلّ 80 دولة في يوم واحد، وتعطّلت خطوط الوقود الأمريكية في “Colonial Pipeline” بسبب عملية اختراق واحدة، وتعرضت أوكرانيا لانقطاع كهرباء كامل بسبب هجوم سيبراني موثّق، وأصيبت مؤسسات في بريطانيا وكندا واليابان بخسائر بمليارات الدولارات نتيجة اختراقات رقمية. إن دولة صغيرة أو مجموعة مجهولة يمكنها تعطيل دولة كبيرة إذا امتلكت المفاتيح التقنية، وهذا هو العالم الجديد: عالم تُصنع فيه القوة في البرمجيات كما تُصنع في المصانع والقواعد العسكرية.

وفي هذا السياق، تصبح الدولة الرقمية — كما أوضحنا في المقالات السابقة — بنية قوية ومترابطة وفعّالة، لكنها في الوقت ذاته أكثر حساسية من أي وقت مضى. فإذا لم تُحمَ بالشكل الصحيح، تحولت قوتها إلى نقطة ضعف قاتلة. فالنظام الصحي، والضرائب، والجمارك، والهوية الرقمية، والبنوك، والكهرباء، والمياه، والاتصالات، والمطارات… كلها أهداف قابلة للهجوم، وكل واحدة منها كافية لإرباك دولة كاملة وشلّ خدماتها الأساسية. التقنية بلا أمن قد تكون أخطر من غياب التقنية نفسها، لأنها تمنح الدولة ثقة زائفة بينما أبوابها الخلفية مفتوحة لمن يعرف أين يضرب.

والأمن السيبراني الحقيقي لا يقوم على برامج مكافحة الفيروسات أو الجدران النارية وحدها، بل على منظومة متكاملة تبدأ من التشريعات وتنتهي بالإنذار المبكر. فلا بد من قانون وطني لحماية البيانات وأمن المعلومات، وسياسات صارمة لتداول البيانات، وإدارة دقيقة للصلاحيات، وتشفير شامل للاتصالات الحساسة، وتدريب مستمر للكوادر الحكومية، وعمليات اختبار متخصصة لاكتشاف الثغرات قبل أن يكتشفها الآخرون. كما لا بد من مركز وطني للاستجابة للطوارئ الرقمية يعمل على مدار الساعة، يراقب الشبكات، ويكتشف الهجمات، ويتعامل معها في لحظتها، ويمنع انتشارها، ويعيد الأنظمة للعمل بسرعة. هذه ليست كماليات، بل متطلبات تفرضها طبيعة العالم اليوم على أي دولة تطمح إلى الحداثة.

ومن دون سيادة رقمية، تظل الدولة رهينة شركات أجنبية تملك قواعد بياناتها، أو تدير منصاتها الأساسية، أو تستضيف أنظمتها الحساسة خارج الحدود، فتجد نفسها في موقف العاجز إذا قررت شركة ما إيقاف خدمة، أو التلاعب بالصلاحيات، أو التحكم في البيانات. والسيادة الرقمية هنا ليست عداءً للتكنولوجيا العالمية، بل احترامًا لحق الدولة في أن تكون صاحبة المفتاح والقرار.

وما يجعل الأمن السيبراني ضرورة ملحة ليس فقط أنه يحمي من الهجمات، بل لأنه يرفع منسوب الثقة في الدولة والاقتصاد معًا. فالمستثمر الأجنبي لن يضع أمواله في دولة لا تملك منظومة حماية معترفًا بها عالميًا، والمؤسسات الدولية لن تتعامل مع حكومة بياناتها مكشوفة أو غير محصّنة، والمواطن لن يثق في خدمات رقمية يشعر أنها قابلة للاختراق. الأمن السيبراني قاعدة لا تقوم من دونها أي نهضة رقمية ولا أي إصلاح إداري أو اقتصادي.

وفي ظل هذه الضرورات، تظهر شركات محلية ناشئة قادرة على بناء خدمات سيبرانية متقدمة: شركات لاختبار الاختراق، وأخرى لمراقبة الشبكات، وثالثة لحلول التشفير، ورابعة للنسخ الاحتياطي الذكي، وخامسة لتدريب الموظفين، وسادسة لتحليل الهجمات. هذه الشركات لا تحمي الدولة فقط، بل تبني اقتصادًا جديدًا قائمًا على الأمن الرقمي، وهو قطاع عالمي يُتوقع أن يتجاوز تريليوني دولار خلال سنوات قليلة. إننا لا نبني نظام حماية فحسب، بل نبني سوقًا جديدة وفرصًا جديدة وقطاعًا يمثّل مستقبل الاقتصاد العالمي.

وبناء دولة رقمية بلا أمن سيبراني يشبه بناء مدينة من الزجاج؛ قد تبدو جميلة لكنها قابلة للكسر في أي لحظة. وإذا كان العالم يكافح الهجمات الرقمية كما يكافح الهجمات العسكرية، فمن باب أولى أن نضع الأمن السيبراني في السودان في مقدمة أولويات الإصلاح والنهضة، وأن نجعله الأساس الذي تُقام عليه كل الخطوات التالية. فدولة بلا حماية رقمية هي دولة مكشوفة، ودولة مكشوفة لا تستحق اسم الدولة الحديثة.

وهذا المقال يأتي خطوة ثامنة في سلسلة تمتد إلى ثلاثة عشر مقالًا نرسم من خلالها صورة شاملة لكيفية بناء دولة حديثة، لا بالفكرة المجردة فقط، بل بالأدوات التي تحفظها من المخاطر وتحمي مستقبلها، وتضع السودان في المسار الذي يليق به في عالم سريع لا يرحم المتأخرين ولا ينتظر المترددين.