ضفاف/  نصر الدين بخيت العقابي: جرا غرب… حين تتحرك القلوب، يتحرك العالم

ضفاف
نصر الدين بخيت العقابي

جرا غرب… حين تتحرك القلوب، يتحرك العالم

رأي : سودان سوا

لم يكن صباح جرا غرب يشبه أي صباح مضى. شيء خفي كان يتحرك في الهواء… كأن القرية، بكل ما فيها من نخيل وأزقة ووجوه تعرف بعضها بالنظر، شعرت أن الوقت قد حان لتقول شيئًا أكبر من مساحتها. جرا ليست قرية كبيرة، لكنها — كما في تاريخ القرى الشمالية — تملك قلبًا يعرف اتجاهه دون أن يُملي عليه أحد ماذا يفعل.

ولدت مبادرة “جرا غرب لإفطار نازحي الفاشر” من صمت، من إحساس داخلي بأن ما يجري في البلاد لم يعد شأنًا بعيدًا. الصور القادمة من الفاشر، حكايات النزوح، الأطفال الذين فقدوا بيوتهم، النساء اللواتي وصلن إلى أطراف المدن بوجوه لم تعرف الراحة… كلها تفاصيل ظلت تمس شيئًا في أعماق الناس. وهكذا، حين جاءت الفكرة، لم تحتج إلى نقاش طويل. كانت أشبه بنبض قال: الآن… ليس غدًا.

جرا لم تذهب لتثبت أنها الأفضل، ولم تتحرك لتسجّل موقفًا اجتماعيًا أو سياسيًا. تحركت لأنها شعرت بأن الوطن، في هذا الزمن الحرج، لم يعد يحتمل الغياب. وأن الإنسان، حين يرى الآخرين في محنة، يصبح معيار أخلاقه مرتبطًا بقدرته على المشاركة، لا بقدرته على الكلام.

وفي هذا المشهد، ظهر محمد عبدالله حسين، الشاب الهادئ الحكيم. لم يظهر كقائد يرفع يده ليُلاحظ، بل كابن يعرف كيف تتصرف القرى حين يكون الواجب أكبر من الكلام. يمشي دون ضجيج، يحسم دون صراخ، ينسّق دون أن يشعر أحد بأنه “يأمر”، ويجمع الناس بخلقٍ يشبه النسيم… يمرّ فلا يُحدث ضوضاء، لكنه يغيّر شكل الهواء من بعده. محمد عبدالله حسين لم يكن مجرد منسق. كان نقطة ارتكاز جعلت كل الحركة تتجه في مسار واحد، دون أن يتوه أحد، ودون أن يشعر أحد بأنه خارج الصورة.

لكن المشهد لم يكن ملك قيادة واحدة؛ فقد كان هناك رجل قلّ أن يتكرر في قرية واحدة: مجدي عمر، الرجل الذي يشبه كشكول الخير؛ إمامًا حين يحتاج المسجد إلى صوت ثابت، وقارئًا للقرآن حين تحتاج النفوس إلى الطمأنينة، ومزارعًا حين تنادي الأرض، وقائدًا حين تحتاج المبادرة إلى من يمسك خيطها الأول. في النادي تجده، وفي الزراعة تجده، وفي حل مشاكل الناس تجده، حتى صار وجوده في أي فعل جماعي نوعًا من الطمأنينة: إن حضر… استقام الأمر.

وإلى جانبه وقف بخيت أحمدون، فمّة القرية، الذي حمل الجانب الأصعب من اليوم: إعداد الطعام. ليس لأن الطعام مجرد أكل، بل لأنه رسالة كرم… طريقة أخرى للقول إن جرا حين تعطي، تعطي من روحها لا من فائضها.

وفي ركب المبادرة تحركت عربات كثيرة تحمل رجالًا يعرفون الطريق إلى الخير أكثر مما يعرفون الطريق إلى الأسواق، كان بينهم رماح فيصل وشقيقه محمد فيصل، بروح أبناء المكان الذين لا يتركون واجبًا دون أن يشاركوا فيه. ومعهم آخرون كثيرون، مهما حاول القلم لن يستطيع أن يكتب أسماءهم جميعًا، لأنهم كثيرون بعدد نواياهم الجميلة.

وحين انطلق الموكب، حدث المشهد الذي لا تُوثقه كاميرا ولا يُحكى بسهولة… رجال من كل الأعمار، أطفال يركضون بين العربات، نساء تلوح من البيوت كأنهن يباركن الرحلة، وشباب يدفعون العربات بروح من يعرف أن الطريق، مهما كان قصيرًا، هو طريق أخلاق كاملة.

وفي مقدمة الموكب، كان يسير رجل لا يحتاج إلى تعريف، ولا لقب… رجل حين يتحرك تتبعه الهيبة قبل أن يتبعه الناس: عبدالله عبيد. لم يكن يمشي فقط… كان يكتب عبارة كاملة بالجسد قبل أن يقولها بالكلمات، حين قال عبارته الشهيرة:
“إن أكل نازحو الفاشر… لن نأكل نحن أهل جرا.”
ليست مجرد جملة، بل خريطة أخلاقية كاملة، تلخص روح الشمال حين يشتد عليه الخطب: الكرامة ليست ما نحتفظ به لأنفسنا، بل ما نمنحه للآخرين.

وعند الوصول إلى العفاض، استقبلتهم الساحة كأنها تفتح ذراعيها للحياة. هناك ظهر عبد المنعم الخواجي والجبل وآخرون من الرجال الذين يعرفون كيف يقفون حين يكون الوقوف رسالة. كانوا مثل الأعمدة، أعمدة تحمل سقف الإنسانية في تلك اللحظة. ينظمون، يبتسمون، يساعدون كبار السن، يلتقطون الأطفال، ويضعون في كل حركة جزءًا من نُبل لا يُشترى.

ولأنني لم أكن حاضرًا تلك اللحظة — إذ كنت في محطة سد مروي — فقد رأيت كل شيء عبر الفيديو. لكن المفارقة أن الفيديو لم يكن فيديو… بل نافذة. نافذة رأيت فيها أن القرى لا تحتاج إلى احتفالات كبيرة لتثبت أنها عظيمة… تحتاج فقط إلى أن تتذكر أنها قادرة على الخير.

وفي نهاية هذا المشهد الطويل، لا أجد ما أكتبه أعظم مما فعله الناس على الأرض… فالكلمات مهما سمت تبقى ظلًا للفعل، والظل لا يكون أجمل من صاحبه. لكن ما رأيته — وما رآه كل من تابع هذه المبادرة — يقول إن جرا غرب لم تُقدّم إفطارًا فقط، بل قدّمت درسًا في كيفية صون معنى “البشر”. أعادت تعريف القرية كمكان لا يضيق بأحد، والإنسان ككائن لا يكتمل إلا حين يمد يده لغيره. أعادت إليّ يقينًا قديمًا بأن الخير لا يحتاج إلى موارد… بل يحتاج إلى رجال يشبهون جرا: محمد عبدالله بحكمته، ومجدي عمر بحدسه الإنساني، وبخيت أحمدون بصبره، ورماح ومحمد فيصل بصدقهم، وعبدالمنعم الخواجي والجبل برجولتهم، وعبدالله عبيد بعبارته التي تصلح أن تكون ميثاقًا:
“إن أكل نازحو الفاشر… لن نأكل نحن أهل جرا.”

وهكذا، حين تتحرك القرى من قلبها… يتحرك معها العالم، ويستعيد جزءًا من نورٍ كان يظنه قد انطفأ. وما فعلته جرا غرب ليس حدثًا يُنسى… بل سطر جديد في كتاب طويل اسمه: السودان حين يكون على طبيعته.