لماذا تفشل الأمم؟
بهدوء وتدبّر
بقلم: محمد عثمان الشيخ النبوي
لماذا تفشل الأمم؟
لماذا تفشل الأمم؟ سؤال قديم جديد، كُتبت فيه مئات النظريات، لكن كتاب لماذا تفشل الأمم لدارون عجم أوغلو وجيمس روبنسون، الصادر عام 2012، قدّم أطروحة أصبحت من أكثر الأفكار تأثيرًا في الفكر الاقتصادي والسياسي الحديث، حتى غدا مرجعًا تُدرّس خلاصاته في الجامعات الكبرى. فالمؤلفان من أبرز الباحثين في الاقتصاد السياسي؛ عجم أوغلو أستاذ بمعهد ماساتشوستس للتقنية (MIT)، وروبنسون أستاذ بجامعة هارفارد، وقد اشتهرا ببحوث تربط التاريخ بالاقتصاد والسياسة والمجتمع.
وخلاصة أطروحتهما أن سرّ نهضة الأمم أو سقوطها لا يعود للجغرافيا ولا للموارد ولا للثقافة، بل لطبيعة المؤسسات التي تُقام عليها الدول.
يقول المؤلفان: «الدول الفقيرة فقيرة لأنها تُدار بمؤسسات سياسية واقتصادية استخراجية تتركز فيها السلطة والثروة بيد نخبة ضيقة تستنزف البقية».
أما المؤسسات الشاملة، التي تتيح المشاركة، وتحمي الملكية، وتضمن المنافسة، وتكفل الحقوق، فهي التي تخلق الحوافز للابتكار والاستثمار والنمو.
وأما المؤسسات الاستخراجية، فهي طريق حتمي إلى الفشل مهما سالت الموارد تحت الأقدام.
ويشهد التاريخ بأمثلة لا تُكذّب:
أمريكا الشمالية نهضت لأنها أسست مؤسسات واسعة المشاركة، بينما غرقت أمريكا الجنوبية لأنها قامت على العبودية ونهب الموارد.
إنجلترا لم تدخل عصر الصناعة إلا بعد أن قيّد البرلمان سلطة الملك، فتهيأت بيئة الابتكار.
كوريا الجنوبية صعدت لأنها اختارت المؤسسات الشاملة، بينما بقيت كوريا الشمالية رهينة قمع مؤسسي خانق.
الكونغو مثال واضح: ثروات هائلة، ودولة محطمة؛ لأن موبوتو حوّل الدولة إلى ماكينة نهب شخصي.
ويؤكد المؤلفان أن المؤسسات لا تُولد فجأة، بل تتشكّل عبر منعطفات حرجة كالتحولات السياسية الكبرى، والثورات، والحروب.
غير أن اتجاه هذه المنعطفات—نحو الشمول أو الاستخراج—يتحدد بطبيعة المؤسسات القائمة قبلها.
والسودان اليوم يجسد هذه الحقيقة بوضوح مؤلم.
بلد واسع الموارد، خصب الأرض، غني الإمكانات، لكنه فقير في حياة الناس؛ ليس لعجز في الطبيعة، بل لأن مؤسساته مؤسسات استخراجية تحتكر القرار والثروة، وتقصي الأغلبية، وتُبقي البلاد في دائرة الضعف.
ولذلك، لا تصلح الترقيعات ولا الإصلاحات السطحية؛ فالحل يبدأ ببناء مؤسسات سياسية تضمن المشاركة والمساءلة، ومؤسسات اقتصادية تحمي الحقوق، وتفتح الأسواق، وتربط الاقتصاد بالشفافية والرقمنة والتنافس الحر.
غير أنّ الإسلام سبق هذه الأطروحات كلها، ووضع أساس المؤسسات الشاملة قبل أن تُصاغ هذه المفاهيم بقرون.
قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ﴾، فأرسى مبدأ حرية السعي والعمل والتملك.
ورفع النبي ﷺ مكانة السوق القائمة على الصدق والشفافية، فقال:
«التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء».
وفي باب العدالة العمالية—الأساس الذي يقوم عليه استقرار أي اقتصاد—جاء التحذير النبوي القاطع في الحديث الصحيح:
«ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة… ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه، ولم يعطه أجره».
وهذا ليس حكمًا فقهيًا فقط، بل تأسيس لمؤسسة العدالة الاقتصادية التي يجعل فيها الإسلام حقوق العامل جزءًا من الدين نفسه.
كما حرّم الإسلام الربا والاحتكار، وشرع الزكاة والوقف ضمانًا لتوزيع الثروة ومنع تراكمها في يد فئة محدودة:
﴿كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ﴾.
وهذه كلها ليست مجرد أحكام، بل مؤسسات شاملة سابقة في مضمونها لما يشرحه علم الاقتصاد السياسي المعاصر.
وقد تجلت هذه المبادئ عمليًا في التاريخ الإسلامي:
عمر بن الخطاب رضي الله عنه جعل بيت المال مؤسسة لخدمة الناس لا خزينة للسلطان.
وعمر بن عبد العزيز نشر العدل حتى قيل إنه لم يجد من يأخذ الزكاة.
وأنظمة الوقف موّلت التعليم والصحة قرونًا طويلة، وكانت الزيتونة والأزهر والقرويين مؤسسات مستقلة قائمة على العطاء المجتمعي.
كما كانت أسواق المدينة قائمة على الحرية والشفافية ومنع الغش بلا ضرائب جائرة، وعقود المضاربة والمساقاة جسّدت المشاركة وتوازن الغنم والغرم.
وقال ابن خلدون: «العدل أساس العمران»، وقال الشاطبي إن مقاصد الشريعة تقوم على حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال—وهي مقاصد لا تتحقق إلا بمؤسسات عادلة شاملة.
إن السودان إن أراد النهضة، فعليه أن يستلهم هذا النموذج الإسلامي الذي يحرر الطاقات بلا فوضى، ويطلق السوق بلا استغلال، ويحقق العدالة بلا بيروقراطية خانقة.
عليه أن يعتمد التحرير الشامل لفتح الفرص، والرقمنة المتكاملة لكسر الاحتكار ومحاصرة الفساد، وأن يُفعّل الزكاة والوقف كمؤسستين للتوزيع العادل، ويقيم دولة راعية مسؤولة؛ لا “حارسًا ليليًا” كما عند سميث، ولا “أداة قمع طبقي” كما عند ماركس، بل دولة تستلهم قيم الإسلام في العدل والإتقان.
وعندها فقط يمكن للسودان أن يجمع بين وعد سميث بازدهار السوق، وتحذير ماركس من الاستغلال، ورؤية كينز في التدخل الرشيد، وفلسفة شومبيتر في التدمير الخلّاق—ولكن ضمن إطار حضاري أراده الله لعباده:
﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾.
إن أطروحة لماذا تفشل الأمم وضعت إصبعها على جوهر الحقيقة:
المؤسسات هي التي تشكّل مصير الشعوب—شمولًا أو استخراجًا، عدلًا أو ظلمًا، نهضة أو سقوطًا.
والسودان لا تنقصه الثروات ولا العقول؛ وإنما ينقصه بناء المؤسسات الشاملة.
فإذا أُقيمت على أساس التحرير الشامل والرقمنة المتكاملة، وأُنشئت وفق القيم الإسلامية التي تجعل بناء المؤسسات العادلة جزءًا من واجبات إقامة العمران—لأن الأصل في الأشياء الحرية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب—
فإن السودان قادر—بل مؤهّل—أن يتحول من بلد غنيٍّ فقير… إلى أمة ناهضة معطاءة تقدم للعالم نموذجًا جديدًا في بناء الدولة الرشيدة.