وما أدراك ما النانو؟ (1 من 10)
بهدوء وتدبّر
بقلم: محمد عثمان الشيخ النبوي
وما أدراك ما النانو؟ (1 من 10)
يكثر في زماننا الحديث عن “تقنية النانو”، حتى غدت الكلمة تتردّد في المؤتمرات العلمية، والإعلانات التجارية، وفي مختبرات الطب والزراعة والطاقة، دون أن يدرك كثيرون حقيقتها. وقد صار هذا المصطلح شعارًا لكل ما هو متطور ومبهر، لكنه عند التحقيق علمٌ قائم بذاته، فما النانو؟ وما سره حتى صار مفتاحًا لثورةٍ علميةٍ يُقال إنها ستغيّر وجه العالم كما غيّرته الكهرباء يومًا؟
النانو كلمةٌ أصلها يوناني تعني “الصغير جدًا”، ويُقاس بها جزءٌ من المليار من المتر. ولتقريب الصورة إلى الذهن، فإن سُمك شعرة الإنسان يساوي تقريبًا ثمانين ألف نانومتر، أي أنّ الجسيم النانوي الواحد أصغر من الشعرة بثمانين ألف مرة! في هذا العالم المتناهي الصغر تبدأ قوانين جديدة لم تكن معروفة من قبل، إذ تتبدّل خصائص المادة، فيصبح الذهب أحمر، والحديد يفقد مغناطيسيته، والكربون يتحوّل من فحمٍ هش إلى أنبوبٍ أقوى من الفولاذ بمئات المرات وأخفّ منه بآلاف.
ذلك التحوّل الغريب في سلوك المادة ليس سحرًا ولا خيالًا، بل نتيجة لما يُعرف بتأثيرات الكمّ وتغيّر نسبة السطح إلى الحجم؛ فكلّما صغرت الجسيمات زادت مساحة سطحها النشطة، فتبدّلت طاقتها وتغيّر تفاعلها مع الضوء والحرارة والكهرباء. وهكذا يُعاد تعريف المادة في ذلك القاع الدقيق، فينشأ علمٌ جديد يُدعى “علم النانو”، يُعنى بدراسة المواد والتحكم بها على مستوى الذرّة والجزيء لصنع خصائص لم تعرفها الطبيعة من قبل.
بدأت القصة عام ألفٍ وتسعمائةٍ وتسعةٍ وخمسين حين ألقى الفيزيائي الأمريكي ريتشارد فاينمان محاضرته الشهيرة بعنوان «هناك متسع كبير في القاع»، وفيها تساءل: ماذا لو استطعنا ترتيب الذرات واحدةً واحدة؟ كان السؤال يومها أقرب إلى الخيال العلمي، لكنه صار بعد عقودٍ حقيقةً حين اخترع العلماء المجهر النفقي الماسح الذي مكّن الإنسان لأول مرة من رؤية الذرّات وتحريكها. ومنذ ذلك الحين انطلقت ثورة النانو، التي لم تقتصر على المختبرات، بل تسللت إلى حياتنا اليومية دون أن نشعر.
وهكذا امتدت تطبيقات النانو من المختبر إلى تفاصيل الحياة اليومية: في الأقمشة المقاومة للبقع، والدهانات التي تنظف نفسها، والزجاج الذكي الذي يتحكم في الضوء والحرارة، وفي الشاشات والهواتف والبطاريات، بل في الأدوية التي تُوجّه إلى الخلايا المصابة دون أن تؤذي السليمة، وفي الأسمدة التي تُطلق عناصرها بذكاءٍ وفق حاجة النبات. إنّه علمٌ يجعل المادة تفكّر، والأشياء تستجيب، والإنسان يصنع من الصغر طاقةً للكِبر.
وفي عالم النانو، حيث المقياس هو جزء من المليار من المتر، تتغيّر القوانين التي نحفظها، فالكمّ وحده كفيلٌ بتبديل الكيف؛ فالمادة ليست جامدة الصفات، بل حيّة الحركة في أعماقها، تتبدّل طبائعها حين يتبدّل مقياس النظر إليها. هناك، عند تخوم الصغر، يصبح للضوء لون جديد، وللكهرباء سلوك مختلف، وللحرارة طريق آخر. وكأن الله سبحانه قد أودع في هذا العالم الدقيق سرًّا من أسرار قوله: «الذي خلق فسوى، والذي قدّر فهدى»، فكل ذرّةٍ مخلوقة بتقديرٍ محكمٍ وهدايةٍ داخليّةٍ تجعلها تؤدّي وظيفتها في البناء الكوني بدقة لا يضلّها اضطراب ولا صدفة.
لقد صار الإنسان اليوم بفضل النانو قادرًا على أن يصنع خصائص جديدة للمادة بدل أن يكتفي بما تمنحه الطبيعة له. فالعلم لم يعد يقتصر على اكتشاف القوانين، بل تعدّاها إلى إعادة صياغة المادة نفسها. إنه علمٌ يعيد الإنسان إلى موقعه الحقيقي: مستخلفًا في الأرض لا مستهلكًا لها، مبدعًا لا مقلّدًا.
وهنا تتجلّى العلاقة الحقيقية بين علم النانو ومنظومة التحرير والحوكمة والرقمنة ونفاذ القانون، فهذه المنظومة ليست مجرد رؤيةٍ إداريةٍ أو اقتصادية، بل هي البيئة التي تُهيّئ للنانو أن يتحول من بحثٍ في المختبر إلى ثورةٍ في الواقع. فالتحرير يفتح أبواب الاستثمار والابتكار بلا قيودٍ بيروقراطية، والحوكمة تضمن أن تُدار المشاريع العلمية بكفاءةٍ وشفافيةٍ ومسؤولية، والرقمنة تجعل المعرفة متاحةً وسريعة التداول، بينما يضمن نفاذ القانون أن تكون العدالة والملكية الفكرية والشفافية حاميةً للعلم والعلماء. فإذا اجتمعت هذه الدعائم الأربع، صار تبنّي النانو في السودان سُلَّمًا هائلًا نحو نهضةٍ متسارعة تُغيّر وجه الزراعة والصناعة والطاقة والطب والتعليم في سنواتٍ قليلة، لأن البيئة المحرّرة المنضبطة تجعل من العلم قوةً عمليةً لا حبيسة الأوراق.
وهكذا يتّضح أن النانومتر الصغير ليس مجرد وحدة قياس، بل حدٌّ فاصل بين عالمين: عالم المادة كما عرفناه، وعالمها كما يمكن أن نُعيد تشكيله. فمن هذا المدى الدقيق وُلدت ثورة النانو التي بدأت تغيّر وجه الطب والزراعة والطاقة والصناعة، وستُحدث آثارًا مذهلة في العقود القادمة، مثلما — وربما أكثر — مما فعلت الكهرباء قبل قرنٍ من الزمان.
النانو إذًا ليس علمًا مجرّدًا من روح، بل هو تأملٌ جديد في سرّ الخلق، شاهدٌ على أن الإتقان سُنّة الله في كل شيء، وأن القوة في الصغر لا تقل عنها في الكبر، وقد تزيد. وإذا كان القرن العشرون قد شهد ثورة الكهرباء والاتصالات، فإن القرن الحادي والعشرين يشهد ثورة الذرّة المتناهية الصغر؛ الثورة التي لن تكون لمن يملك المال فقط، بل لمن يملك الفهم والإرادة والرؤية.
وما أحوج السودان اليوم إلى أن يقرأ النانو بعين النهضة لا بعين الدهشة، فبلادنا التي تملك من المعادن والمياه والموارد ما لا يُحصى، قادرةٌ أن تدخل هذا الميدان لا مستهلكةً فقط بل منتجةً ومبدعة، إن هي أطلقت العنان للعقل والبحث والعلم، وربطت بين الحرية والمعرفة والعلم والرقمنة. فالنانو ليس علمًا صامتًا، بل رسالة في جوهرها: أن الإصلاح العظيم يبدأ من التفاصيل الصغيرة، وأن النهضة الكبرى تُبنى كما تُبنى المادة، من الذرّة إلى الذروة.