خطورة ارتباك سياستنا الخارجية : الخروج من التبعية للردع

بهدوء وتدبر
بقلم: محمد عثمان الشيخ النبوي
خطورة ارتباك سياستنا الخارجية :
الخروج من التبعية للردع
ظلت السياسة الخارجية السودانية رهينة الانفعالات الآنية ، وردود الأفعال المرتبكة ، والتحركات التي تفتقد إلى العمق الاستراتيجي والرؤية المتكاملة
وأصبحت حبيسة الانفعال ، وتحولت لأداةٍ لتبرير العجز ، و ميداناً لتلقي الإملاءات .
وعبر عقود منذ الإستقلال سادت سياسة الاستجداء بدل دبلوماسية الندية . و دبلوماسية الأزمات بدل دبلوماسية المبادرات ، وخطاب الشكوى بدل خطاب الفرص . وهو ما أضعف حضور السودان في المحافل الدولية ، وأفقده زمام المبادرة .
صحيح أن هناك إشراقات قام بها دبلوماسيون مخلصون أكفاء ذوو خبرة في الماضي وفي وقتنا الحاضر إلا أنها لم تغير في جوهر الأمر شيئاً لأنها أعمال تتم في غياب السياسات الصحيحة الواضحة والدولة المستقرة القوية . فالسياسة الخارجية ليست سوى انعكاس مباشر لقوتها في الداخل من حيث استقرارها ، ووحدة قرارها ، ومتانة اقتصادها ، ووضوح رؤيتها . فلا يمكن لبلد أن يُحدث فرقًا في الخارج وهو يعيش تمزقاً داخلياً ، أو يفتقد إلى سلطة مركزية تحظى بالشرعية والأهلية للتمثيل .
غريب أن يكون وضع السودان الخارجي بهذا الضعف والإهتزاز الذي جعله نهباً لتحالفات دولية واسعة ضده بينما يملك من عناصر القوة ما يبطل التحالفات ضده ، ويحوله الى قطب قوي في السياسات الخارجية العالمية ، بل يحوله إلى ممر للتعاون ومركز لتلاقي المصالح .
¶ عناصر القوة التي يملك السودان مفاتيحها تشمل :
*السودان ليس دولة صغيرة إنما هو ركيزة توازن جغرافية . موقعه الجغرافي، وسواحله الطويلة تؤهله ليكون مفتاح ربط بين البحر الأحمر والقرن الإفريقي ووسط القارة .
*ديموغرافياً، هو قوة بشرية ضاربة قادرة على النهوض.
*موارده الطبيعية وثرواته الهائلة الكثيرة المتعددة، تمكنه من اكتساب دور محوري في التجارة الإقليمية والعالمية بما يكسبه وزناً دبلوماسياً كبيراً .
*تأثير ثقافته الواضح في ثقافة دول جواره وكثير من الدوال الأفريقية إضافة لانتمائه الى المجموعة العربية والكيان الأفريقي والدول الاسلامية وهي مجموعات تجعل له تميزاً دبلوماسياً مؤثراً .
¶ الفرص أمام السودان واسعة لبناء نسق دبلوماسي يخرج سياسته الخارجية من دوائر الضباب السياسي أو التبعية ، إلى فضاء المبادرات الواعية والانفتاح الذكي ، وأن ينتقل من عقلية الممنوح والمتسوّل إلى شراكات الند للند فالسودان ليس مضطراً إلى أن يكون طرفاً في أي صراع إقليمي أو دولي .ومن الفرص المواتية :
*التحولات الجذرية في العالم بتراجع النفوذ الغربي التقليدي ، وانهيار المنظومة السوفيتية وبقاء روسيا كقطب جديد .
*تغير خارطة التحالفات ، وانشغال القوى الكبرى بصراعاتها . وهذا التبدل يخلق فراغات استراتيجية وفرصاً ذهبية لدول مثل السودان إذا أحسن التموقع.
*الإستفادة من الأقطاب الجديدة والمبادرات الدولية مثل مبادرة “الحزام والطريق” الصينية التي تعتبر نافذة ذهبية للسودان ، ومن أبرز الفرص العالمية التي يمكن أن يستثمرها في سياسته الخارجية ، وهي المبادرة الأضخم في العالم لإعادة تشكيل طرق التجارة العالمية والبنية التحتية المرتبطة بها . وتهدف إلى ربط أكثر من سبعين دولة عبر آسيا وأفريقيا وأوروبا من خلال شبكات ضخمة من الطرق، والموانئ وخطوط السكك الحديدية ، والمشاريع الصناعية ، تحت قيادة الصين . وقد خصّت الصين أفريقيا بمكانة خاصة، وتربطها بالسودان علاقات تاريخية متينة .
*يملك السودان خبرة دبلوماسية كبيرة ورجالاً دبلوماسيين علي كفاءة عالية وقدرة على التعايش مع بحر السياسة الخارجية العالمية المتلاطم الأمواج الذين يعوق انطلاقهم وحسن أدائهم تخبط السياسات العامة للدولة واضطراب أوضاع البلاد وضعف الأنظمة الحاكمة التي تعاقبت على إدارتها .
¶ إن بناء نظام دبلوماسي قوي وسياسة خارجية محكمة متاح الآن بل إن الوضع مثالي لذلك لا سيما وأن السودان في وضع يتطلب بناء كل شيء من جديد على الأسس الصحيحة والسبيل أمامه يتمثل في :
*أن تحكم قيادة البلاد العليا وسلطتها الانتقالية الحالية القبضة بحكمة وحزم في كل ما يتعلق بسيادة الدولة.
*أن توقف بحزم العبث والتفلتات التي تقوم بها مجموعات وجماعات بل أفراد لرسم مستقبل البلاد كوضع الدستور او توجيه سياسة البلاد الداخلية والخارجية أو الامنية .
*وضع سياسة خارجية وبرنامج دبلوماسي محكم للفترة الانتقالية يعالج متطلبات المرحلة الراهنة الحرجة وهناك من الخبرات في وزارة الخارجية وسلكها الدبلوماسي ما يمكن من رسم هذه السياسة وتنفيذها باقتدار .
*توحيد الخطاب الدبوماسي وعدم السماح لأي مجموعة أو أفراد بالتحدث باسم السودان خارجياً أو الإشتراك في أي تجمعات خارجية وقصر ذلك بحزم على وزارة الخارجية وأجهزة الدولة الرسمية .
*السعي لاتباع سياسة خارجية حازمة وفق منهج الندية والمعاملة بالمثل .
*تهيئة البلاد لما بعد الحرب لقيام سلطة سياسية رشيدة تبنى بانتخابات حرة نزيهة وعدم السماح للقوى الخارجية او الجماعات العميلة لها في الداخل بالتأثير علي قيام السلطة الجديدة او المشاركة فيها .
¶ وبقيام السلطة السياسية الدائمة واكمال بناء الدولة يجب دون ابطاء ارساء سياسة خارجية ثابتة ودائمة تتصف بالآتي :
*الإنفتاح على العالم بأنفاس جديدة ، نُحسن بها التعريف بأنفسنا ، ونعيد بها بناء علاقتنا بالآخرين على أسس المصالح المشتركة والندية والسيادة الوطنية.
*حسن صياغة الخطاب السياسي ، وتحديد أولوياته الدبلوماسية بالانطلاق من رؤية وطنية عليا ، تجعل من المصلحة السودانية بوصلتها الوحيدة ، دون انحياز أعمى أو عداوة مجانية .
*الإعلان عن أنفسنا كما نحن دولة تريد النهوض ، مستعدة للشراكة ، وقادرة على حماية مصالحها بذكاء وسلام .
¶ ولتحقيق ذلك فإن هناك متطلبات أساسية لا مناص من توافرها ليكون السودان في الوضع الصحيح دولياً الذي يليق به والذي هو مؤهل له وتشمل :
*إصلاح الداخل ، عبر بناء منظومة حكم رشيدة، ومؤسسات موحدة تعبر عن إرادة الشعب.
*فتح الاقتصاد وتحريره ، وضبط الأنظمة والقوانين بالتحرير الشامل للاقتصاد والضبط الكامل لأنظمة الدولة كلها ، بما ينعكس على إصلاح الداخل ويُعدّ أكبر بوابة لانفتاح السودان على العالم الخارجي بطريقة خلاقة وآمنة . فالعالم لا يثق في الشعارات ، بل في السياسات الواقعية التي تضمن مصالحه وتوفر مناخاً للاستثمار والتعاون مما يجعل العالم كله يتدافع نحوه ، خاصة في ظل توفر كل عناصر الجذب من حيث الموقع والموارد الإنسان والفرص النادرة ويتيح له كل فرص الاستثمار وأنماطها .
*تبني رؤية جديدة للدبلوماسية السودانية تنطلق من الردع والسيادة ، وتبني تحالفات حسب المصلحة الوطنية لا الإملاءات الخارجية
في ظل التحولات الجيوسياسية العميقة التي تعصف بالإقليم والعالم .
*تأسيس دبلوماسية سيادية جديدة تبدأ من منطق القوة والكرامة ، وتنتهي إلى شراكات مدروسة على قاعدة الندية والمصلحة الوطنية ، لا على قاعدة التبعية أو الرضا الخارجي .
*الإنتقال من الدبلوماسية التبريرية إلى الدبلوماسية الردعية فهي ليست منصات مجاملات، بل أدوات قوة وهي خط الدفاع الأول عن الدولة ومشروعها الوطني، ويجب أن تتحول إلى أداة لفضح المعتدين ، وكشف المؤامرات ، وكسر الحملات ،وتثبيت الرواية الوطنية فلا حياد في معركة الوطن .
*إعمال قاعدة المعاملة بالمثل بحزم فمن يُعادينا يجب أن يسمعها صريحة من دبلوماسيينا : “لسنا ضعفاء، ولدينا خيارات للردع .
*تعزيز الفهم في أن الدبلوماسية ليست تسولاً إنما هي تفاوض بشروطنا وإعادة لتعريف علاقتنا مع الخارج حيث لا قروض بلا كرامة ، ولا علاقات بلا سيادة ، ولا دعم بلا مقابل حقيقي . فالعالم لا يحترم الضعفاء، ولا يُعطي شيئًا بلا مقابل فليس هناك تحالفات مجانية بل مصالح متبادلة.
*بناء علاقاتنا الخارجية على أساس من يخدم مشروعنا الوطني ، ومن يقف معنا حين نحتاج وفقا للمصالح المتبادلة لا على أساس الرضا والغضب الظاهرين دون مفاعيل عملية .
وهذا كله يتطلب في المقام الأول هيكلاً دبلوماسياً قادراً يتصف بالآتي :
*سفراء مقاتلون لا موظفين بيروقراطيين وأن يمتلكوا زمام المبادرة والقدرة على التصرف السريع . ويُدافعون عن السودان في كل محفل ، ويُعبرون عن مظلوميته ويقودون العمل الخارجي .
*أن تكون السفارات مراكز ضغط ومناصرة وفضح وتأثير في شجاعة وحكمة ودهاء .
¶ إذن لماذا نظل نتصرف كما لو أننا تحت الوصاية ؟ ولماذا لا تُبنى دبلوماسيتنا على هذه المعطيات العميقة ؟ فلا سيادة خارجية بلا سيادة داخلية ومن لا يُحرر قراره الداخلي ، لا يستطيع أن يُحرر قراره الخارجي .
ومن يُساوم على كرامة شعبه في الداخل لا يستطيع أن يُفاوض العالم بندية .
ولهذا فإن كل إصلاح داخلي اقتصادي أو إداري أو قانوني هو جزء لا يتجزأ من استعادة الفاعلية الدبلوماسية…
لأنك حين تنجح في الداخل ، يأتي الخارج إليك، لا تذهب إليه متوسلًا.
لقد بدأ السودان يتحرر من قبضة التبعية ، وها هو يخوض حرباً سيادية ضد مشروع الهيمنة.
ولن تكتمل معركة السيادة إلا حين تُصبح دبلوماسيتنا أداة فرض لا أداة انتظار ، وأداة ردع لا أداة استرضاء بلا مقابل .
نحتاج إلى دبلوماسية تُشبه شعبنا الصامد ، وتُترجم كرامتنا إلى لغة تفاوض ، وتفرض شروط السودان السيادية على الجميع.
إن من انتصر في معركة الكرامة في الداخل… سينتصر في معركة السياسة في الخارج.