“الزكاة وقدح الميارم.. جبهة داخلية للدفاع عن المجتمع”/ بقلم محيي الدين شجر

بقلم : محيي الدين شجر

في زمنٍ تراجعت فيه أصوات الدعم الإنساني الدولي، وتعمّد كثيرون غضّ الطرف عن مآسي المدن السودانية المحاصرة، ينهض ديوان الزكاة ليقدّم درساً بليغاً في أن التكافل الشعبي ليس شعاراً عاطفياً، بل منظومة مؤسسية فاعلة قادرة على صناعة الفارق.

الاجتماع الثالث للمجلس الأعلى لأمناء الزكاة في بورتسودان لم يكن جلسة روتينية لعرض تقارير وأرقام جافة، بل محطة فارقة حملت بين طياتها رسالة سياسية واجتماعية عميقة: الزكاة ليست مجرد جباية، بل درع واقٍ ووعاء إنقاذ للمجتمع حين تشتد الأزمات.

التقرير الذي كشف عن نسبة أداء تجاوزت 163% لم يكن مجرد إنجاز إداري، بل انعكاس لإرادة صلبة رغم ظروف الحرب والانهيار الاقتصادي. تلك الأرقام تحولت سريعاً إلى قرارات مؤثرة، أبرزها تخصيص 10% من الإيرادات لدعم مدينتي الفاشر وكادقلي، حيث يئن المواطنون تحت حصار خانق صنعته مليشيات آل دقلو الإرهابية، وسط صمت دولي مريب.

إن استدعاء الإرث الشعبي السوداني في صورة “قدح الميارم” يعكس جوهر الفعل الذي يقوم به ديوان الزكاة اليوم. فكما كان ذلك القدح رمزاً للنفير والكرم في أزمنة الشدة، فإنه اليوم يتحول إلى أداة مقاومة وصمود، تذكّر بأن روح التكافل لا تموت مهما كانت قسوة الظروف.

قرارات المجلس لا تقتصر على الدعم المادي المباشر، بل تتجاوز ذلك إلى مسارات التحول الرقمي، إنشاء مركز بيانات، وتوسيع دائرة الخدمات الصحية والتعليمية، وهو ما يؤكد أن الزكاة تعمل وفق رؤية إستراتيجية لا تنحصر في ردود الأفعال، بل تمتد إلى بناء قواعد دائمة للحماية الاجتماعية.

وسط هذا المشهد، تبدو الزكاة أكثر من مؤسسة مالية أو اجتماعية؛ إنها جبهة داخلية تعادل في تأثيرها ساحات القتال، وتعيد صياغة الوعي الجمعي بأن المعركة ليست عسكرية فحسب، بل معركة بقاء وهوية وصمود.

إن “نداء الفاشر” الذي أطلقه المجلس هو نداء لكل السودان، بل لكل إنسان يمتلك ضميراً حياً: أن يضع يده في “قدح الميارم” حتى يفيض بالخير، لأن معركة الحصار لا تُكسر إلا بالتكافل، ولأن إرادة الحياة أقوى من أي حصار.