العائدون من حصار الخرطوم .. ذاكرة وفاء ومعنى للتضحية / بقلم / محيي الدين شجر

العائدون من حصار الخرطوم .. ذاكرة وفاء ومعنى للتضحية
بقلم / محيي الدين شجر
في زمن الأزمات والشدائد، تختبر الشعوب معادن رجالها وصدق مؤسساتها. والحدث الذي نظمته الهيئة الشعبية لنصرة القوات المسلحة في ولاية البحر الأحمر للاحتفاء بالعائدين من حصار الخرطوم، لم يكن مجرد فعالية بروتوكولية، بل جسّد لوحة وطنية عنوانها الوفاء والتقدير.
لقد عاش أولئك الضباط والجنود أياما وليالي طويلة تحت حصار خانق في القيادة العامة وسلاح المدرعات والمهندسين، بعضهم مضى شهيداً وبعضهم عاد حاملاً وسام البطولة، وما بين الاثنين يمتد شرف واحد: الدفاع عن العاصمة والبلاد في معركة الكرامة.
ما يلفت الانتباه في هذه المناسبة أن الهيئة الشعبية – كما شدد الناطق الرسمي باسمها د. حسن علي عباس – أكدت أنها ليست كياناً سياسياً، وإنما سنداً خالصاً للقوات المسلحة. هذا التوضيح مهم في سياق يختلط فيه الحابل بالنابل، حيث يحاول البعض تسويق أجندات حزبية تحت لافتات الدعم الشعبي. لكن الهيئة وضعت النقاط على الحروف: “لا سياسة، بل نصرة للجيش ورمز السيادة الوطنية”.
الرعاية التي قدمتها شركة المتماسكون للتعدين ومشاركة حكومة البحر الأحمر في الاحتفال، تفتح الباب لقراءة أخرى: أن القطاع الخاص والمجتمع المحلي، كلٌ بطريقته، بات شريكاً أصيلاً في معركة الصمود. فمن تقديم الإيواء والسقيا، إلى دعم العودة الطوعية للنازحين، وصولاً إلى تجنيد المتطوعين وتقديم الخدمات للعاصمة الخرطوم، تتجلى هنا صورة السودان المتماسك رغم الجراح.
لقد بدا لافتاً أيضاً الحضور الرسمي من ولاة الولايات ووزراء الحكومة، حيث تحدث والي جنوب دارفور بشير مرسال بكلمات مؤثرة عن أن تلك القوات “رسمت لوحة زاهية في معاني الوفاء والتضحية ومنعت انهيار الدولة”. هذه شهادة يجب أن تُوثق في ذاكرة الأجيال، لأنها تضع النقاط على حروف التاريخ.
وإذا كان الاحتفال قد خص العائدين من حصار الخرطوم، فإن رسائل المتحدثين جميعاً أشارت إلى المعركة الأوسع الممتدة: فك الحصار عن الفاشر وكادوقلي والدلنج، والتطلع إلى سودان آمن مستقر لا مكان فيه للمليشيات ولا للمخططات الخارجية.
في تقديري، فإن قيمة مثل هذه الفعاليات ليست في مظاهرها وحدها، وإنما في رمزيتها ورسالتها المعنوية: أن الجيش ليس وحيداً، وأن الشعب – بمؤسساته الرسمية والأهلية والخاصة – يقف خلفه كتفاً بكتف.
اليوم كان الاحتفال بالعائدين من الخرطوم، وغداً – كما قال المشرف العام للهيئة عمر الصديق – سيكون الاحتفال بفك حصار الفاشر. إنها رسالة أمل في زمن الحرب، وإعلان بأن السودان، مهما تكالبت عليه المحن، يمتلك القدرة على النهوض من رماد الألم ليكتب فصلاً جديداً في دفتر البقاء.