تخلف قطاعنا الزراعي غير المبرر : مشروع الجزيرة وحده يعادل ربع هولندا !!!!

بهدوء وتدبّر
بقلم: محمد عثمان الشيخ النبوي

تخلف قطاعنا الزراعي غير المبرر :
مشروع الجزيرة وحده يعادل ربع هولندا !!!!

ضعف الإرادة وسوء الإدارة وضيق النظرة هي فقط ما يبرر ضعف إنتاجنا الزراعي وضآلة عائداته ، مع توافر امكانات وموارد هائلة في بلادنا تؤهلها لأن يتحقق فيها شعار سلة غذاء العالم بكل جدارة واقتدار .
مفارقة عجيبة يمثلها السودان بامتلاكه أكبر وأفضل وأيسر الموارد الزراعية والحيوانية ، ومع ذلك يستورد معظم عناصر غذائه الأساسية . فماذا يكون هذا إن لم يكن العجز ونقص القادرين على التمام !!
يملك السودان في أرضه المباركة من موارد الزراعة :
مساحة صالحة للزراعة تزيد على مئتي مليون فدان (FAO, 2021)، وهي أراض مسطحة لا تحتاج لاستصلاح وتربتها سليمة ليس فيها علل الملوحة او المواد الكبريتية التي تحتاج لمعالجات كيميائية . وحتى الأراضي التي صُنفت على أنها أسوأ أراضي السودان في سهول حوض النيل الأبيض وأنها أراض مالحة انتجت القطن أصعب المحاصيل ، وأنتجت الفواكه المانجو والموز والبرتقال والقريب فروت والرمان والتوت ، وانتجت الخضروات بمميزات عالية وانتاجية متفوقة . فما بالك بباقي أراضي السودان المصنفة بأنها أراضٍ رفيعة المواصفات .
الزراعة المطرية في السودان تغطي 25% من المساحة المزروعة في السودان في السهول الطينية الوسطى ، أي 50 مليون فدان ، وتنتج الذرة والدخن والفول السوداني والكركدي والصمغ العربي ، بالإضافة إلى محاصيل بستانية مثل الطماطم والبامية والبطيخ وغيرها .
في السودان انهار عملاقة هي النيلين الأزرق والأبيض وأنهار عطبرة والدندر والرهد ، وأطول من 1600 كلم من نهر النيل ، وحصة من مياه النيل تبلغ 18 مليار متر مكعب .
مياه الأمطار السنوية تتجاوز الف مليار متر مكعب يستفاد فقط من 0,005 % ، والكمية المهدرة الممكن حصادها بمختلف الطرق يمكن أن تتجاوز حصة السودان من مياه النيل .
يبلغ حجم المياه الجوفية المتوفرة في السودان 900 مليار متر مكعب ، مع تجديد سنوي يبلغ 1.563 مليار متر مكعب .
توفر الطاقة مع امكانات هائلة في انتاج الطاقات البديلة من الطاقة الشمسية وطاقة الرياح .
تعدد المناخات في السودان بما يلائم زراعة كل شيء . حيث يمكن أن تنمو كل أنواع المحاصيل تقريباً، كالحبوب من قمح وذرة رفيعة وذرة شامية ودخن وأرز ، والبقوليات من فول سوداني وعدس وفاصوليا وحمص ، والدرنيات من بطاطس وبطاطا حلوة وكسافا ، والخضروات من طماطم وبصل وجزر وبنجر وخيار وفلفل وباذنجان وخضروات ورقية ، والفواكه من مانجو وموز وبابايا وجوافة ورمان وعنب وتمر وحمضيات وغيرها ، والمحاصيل الصناعية والتصديرية كالقطن والسمسم والصمغ العربي وقصب السكر وعباد الشمس وفول الصويا ، وهذه وحدها قادرة على إدخال مليارات الدولارات إذا أحسن استغلالها .
انتشار الأعلاف الطبيعية كالبرسيم والسورجم ونباتات المراعي الطبيعية .
توافر النباتات الطبية والعطرية مثل الكركديه والحلبة والكمون والكزبرة والمورينقا والستيفيا وعشرات النباتات الطبية والعطرية الأخرى ، وهي محاصيل مطلوبة عالمياً وقيمتها التصديرية في تزايد مطرد .
الثروة الحيوانية التي يضمها القطيع السوداني والتي تزيد على مئة وعشرة ملايين رأس منها 30 مليون رأس من الأبقار ، و40 مليون رأس من الأغنام ، و36 مليون رأس من الماعز ، و4.5 مليون رأس من الإبل و 840 الف رأس من الخيول متصدراً بها الدول العربية ، وهي ثروة تؤهل السودان ليكون من كبار مصدري اللحوم والألبان والجلود .
وجود مشروعات زراعية عملاقة ببنيات تحتية من افضل البنيات في العالم مثل مشروع الجزيرة في السودان الذي تبلغ مساحته وحده نحو مليونين ونصف المليون فدان، أي ما يعادل أكثر من عشرة آلاف كيلومتر مربع، تعادل ربع مساحة هولندا الكاملة. وعلي نسقه قام مشروع خشم القربة ومشروع الرهد اللذان تتجاوز مساحتهما مجتمعين 800 الف فدان ، ومزارع وصناعات السكر في الجنيد وخشم القربة وعسلاية وغرب ستار وكنانة .
للأسف تواجه هذا القطاع العملاق معوقات قعدت به ، وجعلت الفائدة منه ضئيلة قياسا بالموارد المتاحة وتشمل :
القيود التي تكبل الاقتصاد وتمنع انطلاقه وتحول دون توسع الاستثمار ودخول مستثمرين كبار في هذا القطاع وغيره .
ضعف أداء الدولة وتعقيد الإجراءات وبطئها وإدارتها بنظم متخلفة .
غياب الرؤية الإستراتيجية التي على ضوئها يمكن وضع الخطط طويلة ومتوسطة وقصيرة المدى .
تخلف وسائل الري وإهدار ثروة المياه وضعف حصاد المياه الذي يُمكِّن من التوسع في الزراعة ، وكذلك ضعف استغلال المياه الجوفية .
الإهمال وسوء الإدارة في المشروعات المروية التي وصلت بها ما يقرب من الشلل التام .
وقد أدت هذه المعوقات إلى :
ضعف استغلال المساحات الصالحة للزراعة حيث لا يُستغل منها سوى أقل من ثلاثين مليون فدان فقط ، أي حوالي 15% من الإمكانات المتاحة .
لا تزال البلاد تستورد دقيقها وزيتها وسكرها ومنتجات زراعية وحيوانية بما يفوق ملياري دولار سنوياً .
ولتحقيق انطلاقة هذا القطاع العملاق ووضعه في المسار الصحيح ليحقق لشعبنا النهضة الشاملة والرخاء والرفاه فإن هذا يتطلب اتخاذ خطوات إصلاحية جذرية تشمل :
إصلاح البيئة العامة اللازمة للنهضة الزراعية ببناء بيئة اقتصادية وسياسية واجتماعية صالحة ،بتحرير اقتصادنا تحريراً شاملاً بحيث تنطلق قوى السوق بلا قيود وتشوهات ويتدفق الاستثمار والتمويل ، وضبط أداء الدولة بنظام رقمي متكامل يقضي على الفساد والبيروقراطية ويوصل المزارع مباشرة إلى التمويل والسوق .
وضع استراتيجية شاملة للبلاد وعلى هداها وضع استراتيجية للقطاع الزراعي تمكن من وضع خطط علمية يسير عليها القطاع الزراعي .
توسيع وتطوير الزراعة المطرية التي تغطي مساحات كردفان ودارفور والنيل الأزرق، بتوفير المعدات والحزم التقنية العلمية لرفع الانتاج والإنتاجية .
التوسع والتطوير في حصاد مياه الأمطار عبر الحفائر والسدود الصغيرة بما يعزز الزراعة المطرية ويقلل من الجفاف .
إنشاء مراكز البحوث والمعامل المتطورة اللازمة للمجال الزراعي والبيطري وترقية تقنيات إدارة التربة .
التحول من الري بالغمر الذي يهدر أكثر من نصف المياه، إلى أنظمة أكثر كفاءة بتعديل وسائل الري إلي طرق الري بالرش والتنقيط اللذان يوفران حتى ثمانين بالمئة من الفاقد .
تحديث الزراعة المروية في الجزيرة والرهد وحلفا الجديدة بتحديث شامل لشبكات الري ، وتنويع محاصيلها ودوراتها الزراعية ، وتحسين النظم الإدارية فيها .
اتباع الأنماط الحديثة للزراعة كالبيوت المحمية التي تحافظ على الحرارة والرطوبة وتسمح بإنتاج متواصل ، والبيوت الشبكية التي تقلل من الآفات وتسمح بالتهوية بتكلفة أقل ، والزراعة الهوائية التي تُغذى فيها الجذور مباشرة بالرش بما يعجل النمو ، والزراعة الرأسية التي تستغل المساحات العمودية داخل المدن .
تخصيص مساحات معتبرة للزراعة العضوية التي تقوم على الأسمدة الطبيعية والمبيدات الحيوية ، وتشكل مستقبلاً واعداً للسودان في التصدير إلى الأسواق الأوروبية والآسيوية ، التي تبحث عن الغذاء الصحي الخالي من الكيماويات والتلوث البيئي والصناعي والمواد المسرطنة .
الإتجاه إلى الزراعة الذكية التي توظف الرقمنة وأجهزة الاستشعار والطائرات المسيّرة والذكاء الاصطناعي ، لإدارة الحقول بكفاءة وتقليل الفاقد.
تحلية المياه المالحة باستخدام الطاقة الشمسية ، وذلك يفتح المجال أمام المناطق الساحلية ، فيما توفر الطاقة المتجددة من شمس ورياح وسيلة رخيصة ومستدامة لضخ المياه .
تحويل المحاصيل إلى منتجات غذائية وصناعية قابلة للتصدير ، بانشاء وتوسيع مطاحن القمح ومصانع الزيوت النباتية ومعامل السكر وصناعات الألبان والعصائر ومصانع الأعلاف ومعامل الأدوية المستخلصة من النباتات الطبية والصناعات التجميلية القائمة على الزيوت العطرية وتطوير المسالخ وصناعات اللحوم والجلود .
حسن استغلال الثروة الحيوانية التي تزيد على مئة وعشرة ملايين رأس، وهذه تتيح فرصًا هائلة لإنتاج اللحوم الحية والمبردة والمعلبة والألبان ومشتقاتها والجلود.
التكامل بين الزراعة والصناعة مما يزيد كثيراً القيمة المضافة ، ويخلق فرص عمل ، ويجعل السودان منافساً في الأسواق العالمية .
التكامل أيضاً بين الزراعة والحيوان الذي يضاعف الإنتاجية ويخفض التكلفة إذا استُثمرت مخلفات الزراعة كأعلاف ، واستخدم روث الحيوان كسماد عضوي أو لإنتاج الغاز الحيوي ، لتتكامل دورة الإنتاج وتصبح أكثر استدامة وربحية .
وبهذه الخطوات المحسوبة يمكن أن يحقق القطاع الزراعي وحده نهضة غير مسبوقة في بلادنا وهي ركيزة أساسية للحياة في السودان إذ تساهم بما يقارب ثلث الناتج المحلي الإجمالي، ويعتمد عليها أكثر من ستين بالمئة من السكان في معاشهم (World Bank, 2022) .
وناهيك عن استثمار كل امكاناتنا الزراعية فإننا وكأمثلة محدودة :
إذا زرع السودان فقط عشرة ملايين فدان قمح بإنتاجية 1.5 طن للفدان فإن الناتج سيكون الناتج خمسة عشر مليون طن ، وهو يكفي السودان ويحقق فائضاً للصادر .
وإذا زرع خمسة ملايين فدان سمسم بمتوسط نصف طن للفدان فالإنتاج يكون 2.5 مليون طن تعود بعوائد تفوق ثلاثة مليارات دولار سنوياً .
يحتكر السودان 70%
من الإنتاج العالمي في الصمغ العربي (FAO, 2022)، وعائداته يمكن أن تقفز أضعافاً مع التصنيع.
ويمكن بكل تأكيد بحسن استغلال مواردنا الزراعية أن ينهض السودان ليكون مركزاً إقليمياً للأمن الغذائي العربي والإفريقي ، ويملأ فجوة غذائية عربية تتجاوز قيمتها ستين مليار دولار سنويًا (Arab Food Security Report, 2021).
أما في التجارب العالمية فهناك أمثلة قوية على ما يمكن تحقيقه إذا أُحسِن استغلال الموارد الزراعية وحدها :
أنجزت الهند ثورتها الخضراء في ستينات وسبعينات القرن الماضي عبر البذور المحسنة وتقنيات الري والدعم المؤسسي ، والبرازيل تحولت من بلد مستورد للقمح إلى قوة عالمية في فول الصويا وقصب السكر عبر البحث العلمي والتكامل الصناعي .
رواندا بعد حرب أهلية مدمرة جعلت من الزراعة أساساً للنهوض الاقتصادي والاجتماعي .
إثيوبيا رفعت إنتاجها عبر التوسع في الزراعة المطرية المنظمة .
هولندا الصغيرة مثال صارخ حيث لا تتجاوز مساحتها واحداً وأربعين ألف كيلومتر وهي أصغر من أية ولاية سودانية واحدة ويعادل مشروع الجزيرة وحده حوالي ربع مساحتها حيث استطاعت أن تصنع معجزتها الزراعية فغزت العالم بزهورها وخضرواتها وألبانها، ولم تعتمد على الطبيعة وحدها بل صنعت أرضها بيدها حين ردَمت البحر لتكسب يابسة جديدة ثم وظفت العلم والتقانات الحديثة والزراعة الذكية والمحمية حتى بات إنتاجها يملأ الأسواق الأوروبية والعالمية وصارت نموذجاً عالمياً في الزراعة المحمية والذكية ، وبلغت صادراتها الزراعية عام 2024 نحو 128.9 مليار يورو، منها 47.4 مليار يورو من منتجات محلية و5.2 مليار من إعادة التصدير ، وجاءت منتجات الألبان والبيض في الصدارة بقيمة 12.3 مليار يورو ، تلتها الخضروات والزهور بـ 11.9 مليار يورو، ثم اللحوم بنحو 10.7 مليار يورو (CBS Netherlands, 2025). واستطاعت أن تحوّل الزراعة ومنتجات الحيوان إلى مصدر دخل يفوق ميزانيات دول كاملة ، والمعلومة عبر منصات شفافة (FAO Digital Agriculture Report, 2022) .
وأصبحت هولندا بذلك من أكبر مصدرى الغذاء في العالم ، إذ بلغت قيمة صادراتها الزراعية عام 2024 نحو 128.9 مليار يورو (CBS Netherlands, 2025) .
فإذا كانت دولة صغيرة محدودة الموارد قد فعلت ذلك فما بال السودان الذي حباه الله بسعة الأرض والمياه وتنوع المناخ والبيئات الزراعية إذا استغل موارده الزراعية والحيوانية الغزيرة .
إن السودان يستطيع أن يتحول من بلد مستورد إلى بلد مصدر ومن أرض خاملة إلى سلة غذاء العالم، لكن ذلك مرهون بأن نكسر قيود الماضي ونبني نظاماً حراً ورقمياً متكاملاً يفتح الأبواب للعلم والتقنيات والاستثمارات ، وحينها فقط ستخرج الأرض كل خيراتها ، ويغدو السودان بحق أرض النهضة والخصب والوفرة.