ماهي معادلة النهضة التي يملكها السودان ويهدرها؟

بهدوء وتدبّر
بقلم: محمد عثمان الشيخ النبوي
الحديد والكتاب والعدل:
معادلة النهضة التي أهملناها
قال تعالى:
“لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ، وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ، وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ، إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ” [الحديد: 25].
هذه الآية ترسم خارطة شاملة لبناء أي حضارة عادلة ومتماسكة ، قاعدتها الوحي (الكتاب) ، وعمودها العدالة (الميزان) ، وسقفها القوة المنتجة (الحديد) . وإذا اختلّ أحد الأركان اختلّ البناء كله . فإن وُجد الحديد دون كتابٍ يهدي أو ميزانٍ يعدل ، ساد الظلم والقهر . وإن وُجد الكتاب بلا حديد فُقد التمكين والقوة . وإن وُجد الميزان بلا هداية ، أصبح القانون أداة في يد الأقوى لا في خدمة المظلوم .
عبر التاريخ رأينا حضارات قامت بهذه المعادلة وسادت ومنها حضارات السودان القديمة .
والدولة الإسلامية في زمن الخلافة الراشدة مثلاً، جمعت بين الكتاب هدايةً، والميزان عدالةً، والحديد قوةً حامية لا باغية . كانت الجيوش تتحرك لا لنشر السطوة ، إنما لنصرة المستضعفين ، وكان الخلفاء يخضعون للمساءلة ولا يعلون على القانون . عمر بن الخطاب ذاته قالها بوضوح: “لو أن شاةً عثرت في العراق، لكنت مسؤولاً عنها لماذا لم تُمهّد لها الطريق يا عمر؟”.
ثم في العصر العباسي والأندلسي ، رأينا كيف تحولت معارف المسلمين إلى منافع عظمى للناس . استُخدم الحديد لبناء الأسلحة ومعدات الزراعة وأدوات الجراحة والفلك ، ومختلف الصناعات آنذك .
وسُخّرت المعرفة لتأسيس المستشفيات ، والمحاكم ، والمراصد ، والجامعات .
كانت التكنولوجيا خادمة للإنسان لا سيدة عليه ، لأن المنظومة كلها كانت محكومة بروح الكتاب ومقاييس ميزان العدل .
أما حين اختلت هذه المعادلة كما حدث في مراحل الانحطاط ، فقد فقد المسلمون التوازن . بقيت النصوص لكن غاب العدل . وضمرت القوة فاختلت الدولة وانفرط العقد .
في زماننا تُعدّ التجربة الألمانية واليابانية نموذجاً على تسخير “الحديد” بعد الحرب ، ليس للبأس فقط إنما لتحقيق المنافع . خرجت الدولتان ألمانيا واليابان مدمّرتان تماماً بعد الحرب العالمية الثانية ، لكن بعقلية منضبطة وبرامج إصلاحية واضحة أعادتا بناء قوتهما الاقتصادية والصناعية ، مع احترام صارم للقانون وحقوق الإنسان . كانت الرسالة هناك دنيوية محضة ، لكنها أوصلت إلى عمران كبير بفضل إقامة ميزان العدل والتنظيم والمثابرة . فكيف إذا اجتمعت معها روح الوحي؟
لكن أمر السودان عجيب ، فهو يملك ما لا تملكه المانيا او اليابان أو أي دولة أخرى نهضت وحققت عمراناً كبيراً . فهو يملك كل العناصر التي أشارت إليها الآية الكريمة كعناصر لازمة ومتلازمة لنهضة الأمم وازدهار الحضارات .
لديه الكتاب القرآن العظيم هادياً ومرشداً ودليلاً ، وانتشر بين الناس حفظاً ومن الممكن وبيسر اذا مهدت له البيئة الصالحة ان يسود بينهم فهماً وسلوكاً ، فيصبغهم بكل قيم العدل وهم بلا ريب مهيئون لذلك وأهل له . وحباهم الله بالحديد الذي قامت عليه حضارات السودان القديمة التي ما زالت آثارها شامخة قائمة ووثقت بدقة لدور الحديد في نشوء هذه الحضارات وسيادتها للدنيا عبر قرون طويلة .
ويكفي أن نعلم أن لديه احتياطيات هائلة من خام الحديد ، تقدر بـ 52 مليار طن ، ومع ذلك لا توجد صناعة حديد محلية واسعة النطاق .
وينتشر خام الحديد في مناطق واسعة إلا أن الجهود لاستكشافه متواضعة ، ويتم الاعتماد بشكل رئيسي على إعادة تدوير الخردة وتصنيع منتجات الحديد المستوردة .
ووفقاً لوزارة المعادن السودانية يوجد معدن الحديد في منطقة وادي حلفا مرتبطا بالحجر الرملي النوبي ، ويمتد حتى أبو حمد والبجراوية وشندي .
وفي غرب السودان
يوجد في دارفور خاصة في منطقة كرنوي وجبال بربري ، ويتأثر بالمحاليل الحرارية والصخور الجرانيتية. ويوجد أيضاً في ولاية البحر الأحمر وولاية جنوب كردفان .
ويشمل خام الحديد في السودان ثلاثة أنواع حسب اللون: أسود (يغطي غالبية منطقة الحجر الرملي النوبي)، أحمر (الأكثر تركيزًا)، وبني (متوسط التركيز في جنوب كردفان).
إنّ الآية الكريمة لا تدعو فقط إلى امتلاك عناصر القوة ، بل إلى توجيهها ضمن منظومة متكاملة ، تعلي من شأن العدل والحق ، وتجعل من الحديد وسيلةً للنهضة لا أداةً للطغيان .
وهنا تتجلى وظيفة الدولة الرشيدة التي لا تترك ميزان العدل يختل ، ولا تُطلق الحديد بلا توجيه ، بل تُسخّره لمنفعة الناس وحماية كرامتهم وتمكينهم من العمل والعطاء.
ويمكن أن يحقق السودان كل عناصر النهضة إذا أعْمَلَ هذه العناصر الثلاثة الموجودة لديه فعلاً . لكن سلطات الحكم المتعاقبة على بلادنا منذ استقلالها كانت تنقصها هذه الرؤية المتكاملة التي تؤدي إلى نهضة كاملة وتحقق كل عناصر قوة الدولة وازدهار حضارتها .
ويكفي أن تهييء الدولة البيئة العامة السليمة التي تعتبر شرطاً أساسياً لاجتذاب الإستثمارات الكبيرة ، كالتي يتطلبها استكشاف وتعدين الحديد ، وذلك بفك القيود عن الإقتصاد وضبط أداء الدولة بنظم زقمية متطورة وإقامة موازين العدل والشفافية والنزاهة وتيسر الإجراءات ، عندها تكتسب البلاد ثقة المستثمرين ويمكنها ان تستخرج كنوزها الهائلة من الحديد وتقيم صناعات الحديد الثقيلة الضخمة بدل الاعتماد على إعادة تدوير الخردة التي لاتمكن إلا من انطلاق محدود في مجال التصنيع .
إن القسط لا يقوم بمجرد التمنّي ، بل بترسيخ الكتاب في العقول ، والميزان في المؤسسات ، والحديد في كل ما ينفع الناس ويصدّ العدوان . وهذا هو جوهر النهضة الحقيقية كما رسمه القرآن الكريم . فهل تستجيب بلادنا لهذه التوجيهات الحكيمة وتحقق وفقها نهضتها وازدهار حضارتها .