الخرطوم من جديد… لا للترقيع، نعم للتأسيس”

بهدوء وتدبّر
بقلم: محمد عثمان الشيخ النبوي
“الخرطوم من جديد… لا للترقيع، نعم للتأسيس”
العودة إلى الخرطوم الآن بواقعها المدمر، وجراحها النازفة وانهيار خدماتها وتشوّه بنيتها، أشبه بالإنتحار الجماعي، بل هي جريمة أخلاقية ووطنية تُرتكب باسم العودة الطوعية.
فليس من الحكمة أن نضيع الفرصة التاريخية التي أتاحتها الحرب، بكل مآسيها، في إعادة تخطيط الخرطوم من جذورها، لا بالترقيع ولا بالتجميل السطحي، بل بإعادة التفكير في شكلها، ووظائفها، ومكوناتها، وفق أعلى المعايير العالمية. فالعاصمة الحالية لم تعد صالحة، لا للسكن ولا للإدارة وهي اليوم ليست كما كانت، ولن تعود كما كانت، بل يجب أن لا تعود كما كانت، لأن العودة إلى الوراء تعني الفشل، والهروب من مسؤولية التأسيس، وتعني إعادة إنتاج الخراب.
فبدلًا من إعادة الناس إلى مدينة تغص بالركام، وتختنق بالأمراض، وتنعدم فيها مقومات الحياة، علينا أن ننتهز هذه اللحظة الفارقة لنُعيد تصور الخرطوم كما يجب أن تكون، لا كما كانت.
الخرطوم بموقعها الفريد بين أعظم أنهار العالم، هي جديرة بأن تكون مدينة من طراز رفيع، لا تعج بالعشوائيات، ولا تزاحم فيها الوزارات شاطئ النيل، ولا تخنقها الثكنات العسكرية، ولا يقع مطارها في قلبها. آن الأوان لأن تُخلى تلك المؤسسات الحكومية والعسكرية التي تهيمن على أغلى وأجمل بقاع العاصمة، وأن تُحوّل تلك المساحات إلى مراكز تجارية وفتادق وحدائق عامة، ومتنزهات، ومتاحف، وأبراج حضارية حديثة تُطل على النيل لا على الأسوار.
لم يعد مقبولًا أن تظل الخرطوم القديمة تُدار بعقلية الستينيات، بينما تجتاز العواصم الأخرى قرنها الثاني بتخطيط ذكي، وهندسة خضراء، وبنية تحتية صديقة للبيئة، وشبكات نقل حديثة.
ما ينبغي أن يُقال بوضوح، أن هذه الفرصة لن تتكرر. فالإعمار لا يعني إعادة تثبيت كل شيء في مكانه السابق، بل يعني التحرر من قيود الفوضى، والتأسيس على بصيرة ورؤية مستقبلية ناضجة.،
فمنذ عقود طويلة، والخرطوم تُحاط بهالة العاصمة دون أن تستوفي مقومات العواصم ٠
العالمية الحقيقية. فحتى ما قبل الحرب، لم تكن الخرطوم مدينة ذات تخطيط حضري متكامل، ولا بنية تحتية تواكب متطلبات الحاضر والمستقبل، بل كانت أشبه بمدينة مترهّلة تتضخم عشوائياً بلا رؤية شاملة أو هندسة متقنة.
العاصمة الراهنة لم تكن مؤهلة لاستيعاب حركة الاقتصاد الحديث ولا إدارة دولة ذات طموح تنموي حقيقي.
ما نحتاجه اليوم هو لجنة وطنية عليا تضم نخبة من خبراء الهندسة بكل أوجهها والتخطيط العمراني، والاقتصاد، والبيئة، والمجتمع تتولى وضع تصور جديد للعاصمة، بوضع الخريطة المركزية الإستراتيجة الكاملة التي تضم كل معلومات المدينة الأساسية الجيولوجية وموارد المياه وشبكات الصرف الصحي والكهرباء والطرق وكذلك الخريطة الطبوغرافية التي على هداها تتطور المدينة أفقياً ورأسياً .
وهو تصور يجب ان لا يقيّده الماضي، بل ينطلق من حاجة السودان لمركز سيادي ذكي، أخضر، مرن، منتج، يستوعب متغيرات العصر ويجسّد تطلعات الأجيال القادمة.
لا نتحدث هنا عن إنشاء عاصمة جديدة بالكامل، بل عن إعادة صياغة العاصمة القائمة على أسس حديثة. وإعادة تخطيط توزيع الوظائف السيادية والاقتصادية في نطاقات منطقية مترابطة وظيفياً.
ولئن كانت إعادة بناء مدينة مأهولة أمراً معقداً ، فإن ما حدث – رغم ألمه – قد سهّل هذه المهمة. فخلو معظم مناطق الخرطوم من السكان، وانهيار كثير من الأبنية، يُعد فرصة ذهبية لا تتكرر لإعادة تأسيس المدينة دون صدامات تعويضية، أو نزاعات عقارية خانقة، أو تكاليف تهجير ضخمة.
إن إعمار الخرطوم ليس مجرد مشروع عمراني، بل هو اختبار لقدرتنا على التفكير خارج الصندوق، والخروج من سطوة الماضي، والتعامل مع المأساة كفرصة تاريخية للانطلاق.
ويجب أن نؤكد بكل يقين أن الحديث عن التمويل لا ينبغي أن يكون عذرًا للتقاعس ولا هاجسًا يصدّ الناس عن الطموح، فحين ينطلق الإقتصاد من قيوده عبر تحرير إقتصادي مطلق، ويضبط أداء الدولة بنظام رقمي متكامل، فإن المال سيأتي من تلقاء نفسه، لا استجداءً بل تطلعاً واستثماراً بل سيكون متاحاً فوق ما يتوقع الناس، إذ أن الأموال الباحثة عن بيئة استثمار واعدة لا تُفوّت فرصة كهذه، إذا وجدت الإرادة والتخطيط والنظام.
العالم اليوم يعجّ بأموال تبحث عن الفرص الآمنة والبيئات المستقرة لتُوظف فيها، وهي أحرص على التمويل من طالب التمويل نفسه، إذا وُجدت دولة تملك الإرادة، وتقدم الأرضية القانونية والتنظيمية والتقنية الجاذبة.
ومن أوجب وأسهل ما يمكن أن نفعله اليوم هو أن نُهيئ تلك البيئة ونفتح لها الأبواب لنصبح سوقاً ناهضاً ومنصة عصرية لتدفق رؤوس الأموال، دون إملاء ولا وصاية وستنهمر الاستثمارات وتُولد الوظائف وتنتعش الأسواق، وبالرقمنة الشاملة تُدار الدولة بكفاءة وشفافية وعدالة، ويُكافح الفساد قبل أن يتشكل. وبينهما تُبنى الخرطوم التي نحلم بها، لا التي ورثناها مثقلة بالخلل.
لا يجب أن نبقى أسرى الحنين لعاصمة لم تعد تصلح إلا كمتحف ذاكرة. بل يجب أن نحلم ونعمل لعاصمة المستقبل، عاصمة تُبهج الأجيال، وتُجسد الطموح، وتليق بهذا الشعب العظيم الذي يستحق الأفضل. الخرطوم اليوم ليست نهاية الحكاية، بل يجب أن تكون بدايتها.
محمد عثمان الشيخ النبوي