فجعنا وفجعت (الفجيجة) وضاقت (الفجة)

راي / سودان سوا

سقطت  شجرة من  شجرة حياتنا… واي ورقة؟؟ انها ورقة سترت عوراتنا وغطت علي عيوبنا وظللت حياتنا بالمحبة سعدنا بها عقوداً من الزمان قبل زمن الغربة والارتحال والتهجيرالقسري …وظلت ورقتك خضراء جميلة حتي اخر لحظة من عمرها

انها اشجار الحياة لكل منا شجرته الخاصة وشبكته من الاهل والمعارف والاصدقاء خلال حياته في هذه الفانية و التي تتساقط اوراقها واحدة تلو الاخري مثلما نمت وكبرت و كما بدأت حتي تجد نفسك وحيداً ان لم تسقط من ضمن تلك الاوراق الساقطة بغير ارادتها لذا يجب ان تكون انت نفسك ورقة في شجرة حياة الاخرين تعتاد منح السعادة للغير لتكسب بدنياك اخرتك …… فالحياة لا تدوم رغم انها جميلة وملونة بهذه الاوراق الا انك تُصاب بصدمة كبيرة وحزن اليم عند سقوط احد هذه الاوراق اليانعة الجميلة ….

هكذا كان الراحل الراجل الزاجل الضكران الصديق الحبيب الزميل والاخ *محمد احمد محمد الحاج* او ( ود الحاج) كما يحلو لنا وان شئت قل (حمادة) كما يحلو للزميلات الحسنوات زهرات شجرتنا الوريفة (بنك الخرطوم الطيار مراد) في الزمن الجميل والذي بدأت به حياتي العملية في عالم المصارف وكان اضافة ثرة لمعرفتي ومعارفي

حيث جمعتني واخرون علاقات زمالة امتدت وتطورت حتي كتابة هذه السطور وستمتد ان شاء حتي اسقط من شجرة الحياة ما كتب الله من عمر… عندما تم تعيني اواخر الثمانينات موظفاً ببنك الخرطوم الذي كان شعاره علي ايامنا *(تعال ومعك اخرون)* قبل ان يبعه السارقون ويشردونا…فقد اتيته و وجدت الاخرون في انتظاري علي منصة خدمة العملاء الراقية وسرعان ما وجدت نفسي ضمن المجموعة الرائعةَ ومن بينها نوارتها (حمادة) طويل اخدر قيافة … كان اطولنا في القوام والمقام واكثرنا كرماً وسخاء وعطاء وصفاء ونقاء ورجلاً همام كان تبراً ومعدناً نفيساً اصيلاً كان جميلاً في كل شئ….هادئ الطبع و رزين قليل الكلام كثير الافعال و (مالي بنطلونه وربطة العنق وكارب قاشو) و كان اكثرنا اناقة في مظهره مثلما كان الجوهر النقي التقي و محب للناس و جمعهم ويحبه الجميع من الجنسين… و في اتساق وتوازن عجيب جمع بين الجميل من اهل الريف والقري وحياة المدينة فكان عاصمياً راقياً يعتصم بكرم وضيافة اهل القري ويستعصي علي صخب المدينة وانفلاتها فكان نصيبه من مصطلح (الكراهية) يشبه ال
(Dormant Account)
الذي يحتاج الحضور واثبات الوجود والتوقيع حتي يتم ال( Activation) وحساب ود الحاج في اللا حب دائماً (مجمداً) و اما من المحبة فهو يملك اكثر من (Fixed deposit) ارباحها عائدة لنا وله علينا (Loans) واجبة السداد كم مدد لنا مهلة السداد الي ان اخذه المولي واحسب انه وجدها في موازين حسناته رحمه الله في ال
(Final settlement account)
علي صحيفته عند مولاه والحسابات الختامية….

(ود الحاج) رحمه الله كان شبيهاً بال ( Counter chq registet) علي ايامنا يجده الجميع في الاوقات الحرجة حاضراً ..
وقد كان ود الحاج رحمه الله زبون دائم لل (Investment Dpt) في قلوبنا بعيدا عن المال والمادة بل في صميم العلاقات الانسانية ( لله وفي الله) ودوما كان اضافة و( Credit) لحساباتنا في كل جوانب الحياة

(ود الحاج) كان الخيط الرفيع الدقيق الرقيق القوي الذي يجمع حبات عقد (الشلة) مختلفة الالوان و لكل منا طابعه الخاص من حماقة او لباقة فهو الذي تنتظم عليه حبات العقد الفريد في تناسق مما جعله اكثر جمالاً بخلقه وادبه الجم وذوقه الرفيع ومن الصعب وجود من يسد فراغ ود الحاج بعد الفراق …

كان رحمه الله محباً للخير والجمال يثق بالجميع الي ان يثبتوا العكس.. اذكر ذات مرة في بدايات معرفتي به طلبت منه مفتاح العربية و هو الوحيد الذي يملك سيارة بفرع الطيار مراد غير مدير الفرع فلم يتردد في منحي المفتاح حتي دون ان يعرف هل املك رخصة ام لا فحدث ما لم يكن متوقعاً وكان ذلك الحادث الشهير الذي اصبحت السيارة بعده شبه حطام ونجاني الله فكان رحمه الله مهتماً بعلاجي غير مكترثاً لما جري لسيارته بل لم يسال عن مكانها حتي تشافيت وقمنا بما يلزم نحو السيارة التي عادت كما كانت واكثر وهذا من المواقف التي جعلتني اعمل علي تقوية علاقتي به وكنت ازوره في بيتهم بامتداد ناصر وتوطدت العلاقة بيننا وكم زارنا في العيلفون واستأنسنا بهذا الرجل الشهم الهمام….. َ….

(ود الحاج) مواقفه اكبر من ان تحصي في كلمات رثاء او بكاء.. محمد الحاج ممن يقول عنهم اهلنا الطيبون (اخو البنات وعشاء البايتات) فهو جميل الخصال والفعال.. كان والدي رحمه الله يحبه جداً وكم ذكر لي صفات( ود الحاج) الجميلة ونصحني بالا تنقطع علاقتنا به اطلاقاً فهو ممن يمكن ان نقول عليه (رجل والرجال قليل)

ود الحاج كان HR مجموعتنا ومن يجد القبول عنده كنا فعلاً نجده يستحق ذلك ويدخل قلوبنا وكم تعرفنا علي الكثيرين عبر بوابة ود الحاج … كما انه عمل في وظيفة مراجع اول بقسم المراجعة الداخلية و هو في الواقع لا يشق له غبار في (المراجعات) واصلاح ذات البين في علاقاتنا الخاصه والعامة فلا غرو ان يكون اخر عمله في بنك الخرطوم بالمراجعة الداخلية عارفاً وعالماً باهداف المراجعة الداخلية والغرض منها خالياً من الاحقاد والتسلط والنفخة الكاذبة

ود الحاج كان مصرفياً متكاملاً و محترماً و( زول شاطر) عرف العمل (Manual) وعركه وخبر دروبه عندما اصبح
(Combuterized)
فما ان طرقت (النظم الحديثة) بوابة بنك الخرطوم وصارت ادارة قائمة بذاتها الا وكان ود الحاج من الذين تم اختيارهم لها و كان من رواد ذلك الباب (الحديث) وهو بطبعه (تليد) ومقبل علي (الحداثة) دوماً فالرجل كان من المجتهدين جداً في تطوير معارفه وخبراته عبر سيرة ذاتية طويلة وكان ممن يشار اليهم بالبنان رحمه الله

(حمادة) كان كثير الصمت والتامل والتبسم لا يقول الا خيراً كما انه مستمع جيد يعقل ما يقله الاخر ويتدبره ويحترمه ويناقشه بمحبة… ولا يقول الا المقبول والمعقول…
في سنوات ما بعد عمله بنك الخرطوم ووضعهم امام خيار الاستقالة القسري وعند عودتي النهائية من الغربة طرحت عليه مع شريكه وصديقه (عادل شكري) في عملهم الجديد مشروعهم الذي اختاروه اضافة خط انتاج جديد يرتبط بمشروعهم في المغاسل ونظافة المؤسسات طرحت (نظافة حظائر الدواجن وتعقيمها ) فقد عملت بعد عودتي في تربية الدواجن الذي خبرت دروبه فكان مستمعاً جيداً وتواعدنا علي ان نتدارس الامر علي ارض الواقع لكن داهمني المرض قبل ان ياتي الموعد المضروب..

كنت اقول له رحمه الله مازحاً (بالله في جعلي اسمو حمادة) فيكون رده ضحكة تدخل القلوب وتختصر الحديث وتحمل اجابات المحبة… . كنا ذات مرة في اجتماع بخصوص تحويل النظام بالبنك من يدوي الي حديث وادخال (الكومبيوتر) للفروع اجتماع يديره مراقب الفرع وكانت السيدة الجميلة الانيقة (نجوي محمود) وكانت تقول اثناء اجتماعنا في حديثها انت ياحمادة (تقصدالمرحوم محمد الحاج) تفعل كذا وكذا وعليك كذا وكذا ثم تنتقل انت يا (محمد) تقصدني انا فعليك كذا وكذا .. وفي نهاية الاجتماع استاذنتها قائلاً (يا ريس انا بس عاوز اعرف واحدة بس البخلي ود الحاج حمادة وانا محمد شنو؟؟) فضحك الجميع وصارت طرفة تحكي و يتذكرها الجميع الي اليوم… والاجابة ايضاً معروفة عند الجميع فان اتينا للرقة والدقة والاناقة والقيافة والخلق الرفيع ف (حمادة) ( سيدا ومقددة) ولو اتينا للكرم والشهامة والجود والعطاء والحزم والعزم ومكارم (الضكرنة) ف (حمادة) اكثرنا كرماً وشهامة و(ضكرنة) وهكذا كان (ود الحاج) رحمه الله مثالاً تعملنا منه الكثير

رحل الجميل الاصيل ( حمادة) في هذه الحرب اللعينة صحيح لم تقتله القنابل ولا البنادق ولكن انفجارات الدواخل والحزن الذي خيم علي الناس في بلادي لا شك انه تسبب في موت الكثيرين من الاهل والاحباب وان قادة الحرب هم من قتلوا ود الحاج وغيره وان كان موتهم طبيعياً وسهلاً

*محمد احمد محمد الحاج* كان مقرهم و بيتهم الذي تركه لهم والده بامتداد ناصر ومنطقة بري و هي اول المناطق التي تشرد اهلها بالوديان والبوادي ونداء إستغاثهم تجاوز الجيش (حامي الحمي) لكنه عمل (اضان الحامل طرشاء) رغم ان بري هي اقرب المناطق للقيادة الجيش وكثير من وحداته ولكن رجع صوتهم الصدي ثم نكره فشُرد (اهل البراري) وقود ثورة ديسمبر فهل هناك اسي وحسرة وحزن و (مغصة) اكثر من ذلك فكانت ارض الاجداد (الفجيجة) ريفي شندي هي ارض الاستقرار (لود الحاج) واسرته وابت الا ان تحتضن جسد (ود الحاج) الطاهر هناك تحت ثراها وتخرج روحه ويلفظ اخر انفاسه بدار جعل ليبكيه الاحباب بكل القري والحضر بالسودان مع اهل (الفجيجة) وينتحبوا فقد طفت ايها الحبيب الراحل هذا البلد من شرقه لغربه ومن شماله لجنوبه مراجعاً رفيقاً ومواجعاً رقيقاً وانت بطبعك وسيماك الجميلة وصفاتك النبيلة ما قابلك احد او تعامل معك الا واحبك وتحكرت بقلبه…. وكما سعدنا بك سنيناً بالعاصمة وفي البراري وناصر واحببك اهلي و والدي الذي رحل قبلك بشهور في ذات ايام الحرب وفواجعها بالعيلفون و بكيناه سوياً…

رحيلك ايها الحبيب يحمل من الدلالات ما يحمل فقد كنت معنا متواصلاً حتي مساء الخميس (ليلة الجمعة) يوم وافتك المنية وقبرت في ذلك اليوم الطيب بارض اجدادك الطاهرة ومن العجيب ان يتزامن رحيلك مع اقتحام (الدعامة) لعاصمة ولاية الجزيرة وثاني اكبر المدن السودانية بعد العاصمة القومية وحاضنة اكبر مشروع زراعي بالوطن العربي مدينة ود مدني وكأن حُجب رفعت عنك فابت روحك الجميلة ان تري ما يحل ببلادنا الحبيبة والمستقبل القاتم……. وستظل ذكراك خالدة ايها الحبيب و محب الخير والجمال….رحيلك اشبه بفراقي( للعيلفون) وفارق احبابنا والاصدقاء كل احياء الخرطوم وبحري و امدرمان الي صحاري الروح ومهادها الا انك بعد ان عانيت ذات الفراق فارقت الدنيا باكملها بما فيها ومن فيها و بكل جمالها ومتاريسها وتركتنا في كل هذا القبح والنيران والقتل والدمار مهجرين ومشردين وحتماً سيعود بعضنا او كلنا لكننا سوف نجد بالخرطوم فراغاً عريضاً تركه (ود الحاج) لقد كان رحيلك يوم الجمعة وليلتها يشبه ذات توقيت اقتحام العيلفون ثم ود مدني فقد تم ليلة الجمعة ويومها … يا تري هل انتبه (الحارس مالنا ودمنا) لذلك ام انها عطلة نهاية الاسبوع و(الجيش ما فاضي) اما انت ايها الحبيب الراحل فقد حرسك الله ورعاك بكل جميل يشبهك واختار يوم رحيلك اليه جمعة جامعة… جمعنا الله بك في الفردوس والاحباب تحت اشجارنا الجميلة ونهرنا العظيم

و سلام اليك من دنيا الفناء الي دار البقاء

سلام

محمد طلب