من مترجم صغير إلى أول رئيس قضاء سوداني.. قصة الكفاح المدهشة لمولانا محمد أحمد أبورنات
من مترجم صغير إلى أول رئيس قضاء سوداني.. قصة الكفاح المدهشة لمولانا محمد أحمد أبورنات
إعداد : سودان سوا
في زمنٍ لم تكن فيه فرص التعليم متاحة كما اليوم، ولا طريق المجد ممهداً، خرج من مدينة النهود بشمال كردفان رجلٌ عصاميّ اسمه محمد أحمد أبورنات، سيصبح لاحقاً أول رئيس قضاء سوداني وأحد أبرز من صاغوا ملامح العدالة في السودان الحديث.
قصة أبورنات ليست مجرد سيرة وظيفية، بل ملحمة إنسانية عن الإرادة، والعلم، والإصرار على بلوغ القمة رغم كل العوائق.
وُلد أبورنات في الأول من يناير عام 1902م بحي العمدة في النهود، ذلك الحي الذي أنجب أيضاً الشاعرين الكبيرين تاج السر الحسن وشقيقه الحسين الحسن. ترجع أصول أسرته إلى قبيلة الشايقية، وقد تلقى تعليمه في كلية غوردون بالخرطوم بين عامي 1917 و1920، ثم التحق بالخدمة المدنية مترجماً في 4 يناير 1925 بمدينة الأبيض.
لكن روح الطموح لم تعرف السكون في صدر الشاب الطموح، فاختار أن يدرس القانون بالمراسلة من مدرسة لندن لمدة أربعة أعوام، في وقتٍ كان التعليم عن بُعد ضرباً من الخيال. لم يتمكن من السفر إلى لندن للجلوس للامتحان النهائي بسبب ضائقته المالية، فكتب للحكومة يطلب نقله إلى القسم القضائي، عارضاً شهادته وخبرته.
ذلك الخطاب الشهير الذي أرسله في مارس 1933م إلى كبير المهندسين في ود مدني، كان بداية التحول في حياته؛ إذ أثنى المسؤول البريطاني على جهده الذاتي، وأوصى بأن يُنظر في أمره مستقبلًا. وبالفعل، بعد أشهر قليلة، تم نقله إلى القسم القضائي في الخرطوم، ومنها إلى تسجيلات الأراضي، ليلتحق لاحقاً بـ مدرسة الخرطوم للقانون ضمن دفعة تاريخية ضمت أسماء بارزة، بينهم محمد أحمد محجوب (الذي سيصبح لاحقاً رئيس وزراء السودان) وأحمد متولي العتباني (أول نائب عام سوداني).
تدرج أبورنات في السلك القضائي بثباتٍ ومثابرة، من قاضٍ جزئي في الحصاحيصا عام 1938م إلى قاضٍ بالمحكمة العليا في مايو 1950م، بعد أن وصفه السكرتير القضائي البريطاني بأنه “أول قاضٍ سوداني مؤهل من كل الجوانب لشغل المنصب”. وفي 21 سبتمبر 1955م، عُيّن أول رئيس قضاء سوداني بعد الاستقلال، متوجاً مسيرة امتدت لربع قرن من العمل الدؤوب.
كان مولانا أبورنات موسوعة قانونية حقيقية، يتقن الإنجليزية والفرنسية، ويكتب أحكامه بلغة دقيقة رصينة. اشتهرت مقدماته في قضايا الإعدام بعبارة صارمة:
“THIS IS A HANGING CASE” أي (هذه قضية شنق)، قبل أن يسرد حيثياته بأسلوب محكم ومنطقي أصبح نموذجاً للأجيال اللاحقة من القضاة.
لم تقتصر إنجازاته على ساحات القضاء المحلي، بل تجاوزته إلى الساحة الدولية، حيث عمل عضواً في لجان الأمم المتحدة القانونية، ورئيساً للجنة الاستئنافات المدنية بالأمم المتحدة، كما مثّل السودان في لجان محاربة الاستعمار وحقوق الإنسان بجنيف. وكان حريصاً على كتابة تقاريره بنفسه دون الاستعانة بمساعدين، ما أكسبه احترام الأوساط القانونية العالمية.
ظل أبورنات يعمل بتفانٍ نادر، إذ كانت أنوار مكتبه مضاءة من السادسة صباحاً حتى التاسعة مساءً، وقد وصفه زملاؤه بأنه “يكتب أحكامه بضمير حيّ لا يعرف المجاملة ولا الخوف”.
وفي أكتوبر 1979م، غيّبه الموت في لندن بعد رحلة كفاح امتدت لأكثر من خمسين عاماً، ودُفن اسمه في ذاكرة القضاء السوداني بحروف من نور.
رحم الله مولانا محمد أحمد أبورنات، أول رئيس قضاء سوداني، ورائد مدرسة العدالة السودانية الحديثة.