الخرطوم بعد الحرب: أسرار مخفية وقصص لم تُروَ/ بقلم: محيي الدين شجر

الخرطوم بعد الحرب: أسرار مخفية وقصص لم تُروَ
بقلم: محيي الدين شجر

برفقة وزير النقل والبنى التحتية الأستاذ سيف النصر التجاني هارون، ومدير عام الهيئة القومية للطرق والجسور المهندس مستشار أحمد عثمان الشيخ، ومدير الصيانة المهندس طارق أبو آمنة، ، والزميل محمود عبد الله مدير الإعلام بالهيئة، والزميل عماد دنيا وكالة السودان للأنباء ووفد الوزير وإعلامه النشط، تم تفقد الطرق القومية في وسط وشرق السودان.
بدأت الجولة من بورتسودان يوم الاثنين الماضي 3 مارس، مرورًا بهيا، ثم عطبرة بنهر النيل، ومنها إلى الجيلي، ثم الخرطوم العاصمة، بعد ذلك مدني، ثم القضارف وكسلا.
خلال الزيارة، كان تركيز الوزير بالخرطوم منصبًا على تفقد الكباري التي دمرتها الحرب، مثل كبري الحلفايا الذي دمرت أجزاء واسعة منه، وكبري شمبات الذي انشق إلى نصفين، وكبري المك نمر الأقل تضررًا.

شاهدت وزارة النقل بالسوق العربي، التي تعرضت لأضرار كبيرة نتيجة حريق واسع .
داخل الوزارة كان هناك رتل من السيارات المتضررة والمحترقة، وأمام الوزارة رأيت وزارة الصناعة، التي تضررت بشكل كامل وأصبحت مهددة بالسقوط، وتحتاج إلى إعادة تأهيل شامل. وبين الوزارتين، وقفت
أمام البنايات التي دمرتها الحرب تمامًا، وبالرغم من فقدانها رونقها، إلا أنها احتفظت ببسالتها وشموخها، كأنها شاهدة على شراسة المعركة التي دارت داخلها أو حولها.

في كل ناحية بوسط الخرطوم، شاهدت آثار المعارك وذكريات دماء سالت وآهات وأوجاع خرجت من جدران المنازل. في كل زاوية، هناك بطولات تُروى ومواقف شجاعة تُدرس من أفراد الجيش. في كل جزء من العاصمة، توجد حكاية دامعة وأثر باقٍ لن تمحوه السنين ولن يطويه الزمان.
كثيرة هي المباني الخالية الآن بالسوق العربي من سكانها وموظفيها وعامليها ، وكنت أتساءل: أين هم الآن؟ هل ما زالوا على قيد الحياة؟ فقدت هذه المساكن حيويتها كما فقدت بعض المساكن اسرها ، أين هم الان تساءلت في سري أين هم أطفالهم وأبناؤهم؟
المعركة التي دارت وسط السكان وفي بيوتهم لم يشهدها التاريخ، ولم تذكرها الكتب القديمة، ولا سمعت من أفواه الرواة. خلال الزيارة، أُتيحت لي فرصة استرجاع الذكريات؛ ففي كبري شمبات انقطع الوصل بين الاتجاه الغربي والشرقي، وفي كبري الحلفايا كانت حركة المرور تسير في اتجاه واحد ، وكل راكب بداخله قصة ورواية.
على امتداد مساكن وسط الخرطوم والسوق العربي، لاحظت أن الحياة متوقفة، إلا من نساء يقدمن الشاي تحت المباني، وقوات من الجيش تحرس الأماكن. القصران الجمهوريان، القديم والعتيق والجديد، تعرضا لتدمير شبه كامل، ويحكيان عن معركة شرسة بدأت في 14 أبريل وانتهت بطرد المليشيا، لكن الجدران ما زالت تحتفظ بأسرار ومواقف لم تُحك بعد، وبطولات لم تُكشف بعد.
بينما الحياة خارج السوق العربي تدب كنبت صالح يستنسق الهواء الطيب ويرنو إلى المستقبل..
لقد فشلنا في تدوين كل ما دار، ولم نكتب حتى الآن عن البطولات والتضحيات. في كل دار بالعاصمة الخرطوم، رأيت قصة حزينة تحكيها الجدران الصامتة وبقايا الطوب التي لم تسقط أرضا متمسكة بالبقاء وهناك. في كل أرض وساحة، موقف وأمر جلل. الصمت الذي يخيم على وسط الخرطوم الآن ليس إلا صمتًا من هول الفاجعة التي حدثت فجأة، حينما تحولت العاصمة إلى ساحة معركة طاحنة.
هناك فرق واضح بين الخرطوم في الأيام الأولى بعد تحريرها من قبل الجيش، وبين الخرطوم اليوم بعد جهود لجنة الفريق الركن إبراهيم جابر في ترميم المدينة وإزالة آثار المعارك. فالجهد كان جليًا، حيث تم تنظيف كل الشوارع والطرقات من كل أثر مادي خلفته الحرب والاقتتال، وأزيلت مخلفات المباني المتهدمة، وأصبحت الطرق في حالة زاهية الآن.
ولولا الدمار الشامل الذي بقي أثره في البنايات العالية مثل زين وبنك السودان وغيرهما، لقلت إن الخرطوم لم تشهد معركة قط من شدة الجهد الذي بذله إبراهيم جابر.
غير أن أسفل كبري المك نمر، والذي شهد انفجار لغم في وجه أحد العمال، لا يزال يحتاج إلى عمل، حيث يقبع اللغم الفارغ في مكانه، وتعد المنطقة أسفل الكبري من المناطق الخطرة، ومكتظة بمخلفات الحرب، ما يشير إلى خطورة الاقتراب منها، وقد تم تحذيرنا من ذلك.

أتوقع من اللجنة التحرك لإزالة المخاطر والمخلفات المتراكمة أسفل كبري المك نمر. نعم، برع الفريق الركن إبراهيم جابر في إزالة آثار المعركة بنجاح باهر، رغم أن الآثار الأشد فتكا هي تلك التي تقبع بين ضلوع السكان الذين استيقظوا صباح 14 أبريل والأسلحة فوق رؤوسهم.

أما باقي أحياء الخرطوم، فالكثير من المواطنين عادوا إليها، وبدأت الحياة تعود تدريجيًا. وهذا ما لمسته من خلال الواقع، فيما تدب الحياة في أم درمان بشكل أفضل من حيث الأسواق والمستشفيات والشقق الفندقية. وإذا استمر الاستقرار، نتوقع المزيد من إقبال الفارين للعودة إلى منازلهم.
