بورت سودان / اللورد سنيت الذي نحب: فلسفة الضحك التي غابت
بورت سودان / اللورد سنيت الذي نحب: فلسفة الضحك التي غابت
بقلم: أمين سنادة
من سلسلة “شخوص ونصوص” – اتحاد الأدباء والفنانين بورتسودان في نصف قرن من الزمان (8)
رحل الفنان سنيت موسى، لكن صوته وضحكته ودفء حضوره ما زالوا يسكنون ذاكرة بورتسودان الثقافية. كان من الجيل الغنائي الشبابي الذي قدّم خدمة كبيرة بوعيه الكامل وإدراكه العميق لأهمية نشر والمحافظة على لغة البداويت، تلك اللغة التي شكّلت أحد جناحي الروح البجاوية إلى جانب التقرايت.
جاء سنيت من جيل وجد أمامه إرثًا غنائيًا وضع لبناته رواد كبار من أمثال آدم شاش ومحمد البدري، فحمل ذلك الإرث بعناية، وحافظ على البجاوية عاليا في الوجدان الشعبي، وهي تحلّق بجناحيها في فضاء الوطن رفقة أجيال من الشباب المبدع.
كان سنيت عنوانًا بارزًا من عناوين الثقافة المحلية، يعبّر عنها شدوًا، ويتزيّا بها حين يصعد إلى المسارح أو يغني في الساحات العامة. لم يكن مجرد صوت جميل، بل كان حضورًا إنسانيًا نابضًا بالحياة، يضيف إلى كل مهرجان ومناسبة نكهة من الفرح والدفء. وقد شارك بانتظام في مهرجان البحر الأحمر في جميع دوراته، وكان الفائز بالمركز الأول في المنافسة الثقافية القومية لأغنية التراث.
أنيس المكان وروح الاتحاد
لم تكن قيمته في اتحاد الأدباء والفنانين محصورة في نشاطه الغنائي فحسب، بل كانت تتجلّى في حضوره الاجتماعي الطاغي.
فقد كان الراحل بحق أطرف طرفاء المكان، ما إن يدخل دار الاتحاد حتى يتحلق حوله الجميع، إذ لم يكن يحمل في قلبه ضغينة، ولا يحمل أحد عليه شيئًا. كان حاملًا لمسك الحديث وطيبه، ناشرًا لفرح يليق بالقلوب المتعبة.
كان أنيس الجميع وواحة حقيقية لكل من ضاقت به الحياة. بدخوله، يتحول المكان إلى ساحة ضحك وفكاهة، يعلّم من حوله أن الحزن لا يُعبَّر عنه بالكدر والدموع فقط، بل يمكن مقاومته بالضحك، لأن السخرية ترياق، والابتسام نوع من الفلسفة في مواجهة العبوس.
لم يكن سنيت يسخر من الناس، بل من الأوضاع؛ يواجه العبث بالضحك، والقسوة بالمرح. كان فنانًا في كل شيء: في غنائه، في حضوره، وفي ونسته الشاعرية التي ورثها من عشيرته السيداب، قوم الحكمة المغلفة بالضحكة، والقدرة الفريدة على بث الأمل وتمتين نسيج المودة بين الناس.
مشروع لم يكتمل
لم تمهله الأقدار ليكمل مشروعه الذي كان يسعى إليه بإخلاص، وهو إعادة الدور الثقافي لنادي هيئة الموانئ البحرية، حيث شارك مع إدارة النادي في تأسيس فرقة فنية تضم مجموعة من العاملين بالهيئة، تنشط في المجال الغنائي والثقافي بمدينة بورتسودان.
بدأ سنيت مشواره الفني من مركز شباب التقدم بحي ديم عرب، أحد أعرق أحياء بورتسودان، وهناك تكوّنت قاعدته الجماهيرية الأولى التي ظلت تتسع يومًا بعد يوم إعجابًا بفنه وشخصيته الآسرة. ومنذ ذلك الوقت أطلق عليه محبوه لقب “اللورد”، وهو لقب يليق بكرم روحه وأناقة حضوره.
كان كثير المشاركات في المناسبات داخل الولاية وخارجها، خصوصًا في محليات دورديب والقنب والأوليـب، وكان يتحدث دوماً بإعجاب عن تفاعل جمهور تلك المناطق وتميزهم في استقبال الفن.
وللراحل تسجيلات خالدة في التلفزيون القومي وتلفزيون وإذاعة البحر الأحمر، إضافة إلى العديد من البرامج والمشاركات التي وثقت مسيرته الفنية الغنية.
اللورد الذي لا يُنسى
رحم الله الفنان سنيت موسى، اللورد الذي أحببناه جميعًا، والذي علّمنا أن الفرح موقف، وأن الفن رسالة، وأن الضحك يمكن أن يكون شكلًا من أشكال المقاومة.
سلام عليه في عليائه،
وسلام على ضحكته التي كانت تشهر النور في وجه العتمة.
ألف رحمة ونور عليك، يا لورد الورد والفن والإنسانية.