حين يصبح الحديث عن النهضة ترفًا في حضرة الألم”

بهدوء وتدبّر
بقلم: محمد عثمان الشيخ النبوي

نهضة ما بعد الحرب: بين التفاؤل المشروع والواقع المشروط

تحليل متفائل لمرحلة ما بعد الحرب في السودان لأحد الخبراء الكبار اكتنفه الخطأ من وجهين رئيسيين الأول هو توقعه حدوث نهضة كبيرة تشمل دخول دارفور العملية الإنتاجية بقوة وأغفل أن تحققها ليس حتمياً ولا تلقائياً، بل هو مرهون بإصلاحات جذرية تشمل تحرير الاقتصاد وتحديث أدوات الدولة.
والخطأ الثاني هو أنه جعل هذه النهضة مرجأة ورهينة بتحقق ستة اشتراطات قانونية تتطلب سنوات الى حين اكتمال التنظيمات السياسية وقيام الانتخابات التي تفضي الى اكتمال منظومة الحكم وقيام مجلس نيابي ينشيء الدستور وهو انتظار لا يحتمله المواطن الذي يسحقه الفقر ويعيش في ضيق وضنك .
أشار تحليل هذا الخبير إلى أن البلاد ستشهد تحولات اقتصادية عميقة تشمل دخول دارفور بقوة في العملية الإنتاجية بنسبة مساهمة عالية، وانحسار الرأسمالية الطفيلية، واتساع فرص الاستثمار الوطني بخروج الاستثمار الضار، ودخول شركات دولية كبرى، إلى جانب طفرة إعمار عامة، وانخفاض العمالة الأجنبية غير المقننة، وارتفاع قيمة الجنيه، وتوزيع متوازن للاستثمارات في مختلف الولايات، بل وحدوث استقرار وتوقف للفساد.
*فالحديث عن دخول دارفور في العملية الإنتاجية صحيح نظرياً، بالنظر إلى ما تختزنه من موارد ضخمة لكن بلوغها نسبة مساهمة عالية من الناتج القومي مرهون بتوفر بنية تحتية متكاملة، وأمن دائم لا موسمي، وسلطة دولة تبني ولا تعيق.
*أما الحديث عن هلاك الرأسمالية الطفيلية، فيبقى تفاؤلاً سابقاً لأوانه، إذ أن هذه الطفيليات لا تموت بنهاية المعارك، بل تعيد ترتيب صفوفها في الظلام ما لم يُجتثّ جذرها بمنظومة شفافة تُعلي من قيمة الإنتاج.
*وفيما يتصل باتساع فرص الاستثمار الوطني، فإن خروجه من قمقم العرقلة والشكوك لا يتم بمجرد زوال استثمار أجنبي ضار، بل بتحرير مناخ الاستثمار نفسه من التعقيد والضبابية، واعتماد منظومة رقمية تضبط أداء الدولة وتُعيد الثقة في مؤسساتها وتختصر الزمن وتمنع التلاعب.
*الاستثمار المصنّف حاليا بالضار، يمكن أن يتحوّل إلى نافع بمجرد إخضاعه لضوابط دولة حقيقية تنظم ولا تعرقل، وتشرف ولا تتواطأ، وتحكم بالقانون لا بالمحاباة.
*دخول الشركات الدولية وتمويلها ليس قضية نوايا، بل هو مرهون بمنظومة قانونية عادلة، وسوق مفتوح، وسياسة اقتصادية واضحة، وقضاء تجاري فاعل.
*انحسار العمالة الأجنبية ليس مسألة أمنية، بل هي مرهونة بإصلاح قوانين العمل والتعليم، وتمكين الشباب الوطني من أن يكون هو البديل الفعلي .
*ارتفاع قيمة الجنيه الوطني، لا يأتي من الأمن وحده، بل من اقتصاد منتج وعملة خاضعة لقانون العرض والطلب، ومنظومة مصرفية موثوقة، واحتياطي ناتج من تحويلات رسمية لا من تهريب .
*توازن الاستثمارات لا يحدث تلقائيا، بل بوجود سياسات حكومية ذكية تُوجّه رأس المال إلى الولايات، وتُحفّزه بالأرض والمرافق والحوافز، بعيدا عن مركزية الخرطوم المقيتة .
*الفساد، لن يتوقف بخطاب أو إعلان، بل يحتاج إلى رقابة تقنية وعدالة رقمية وقضاء ينفذ عدالة ناجزة .
ورهن التحليل تحقيق هذه التوقعات التي تحمل قدرا كبيرا من الأمل بتفعيل ستة اشتراطات مؤسسية، وهي عودة المحكمة الدستورية، ووجود دستور متوافق عليه، وقيام مجلس شعب، وتشكيل المجلس الأعلى للقضاء والمجلس الأعلى للنيابة، إلى جانب وجود رؤية تنفيذية للفترة الانتقالية. وهذه شروط تُعبّر عن اتجاه قانوني منضبط، غير أن تعليق مسار النهضة على تحققها أولاً يجعلنا أسرى معادلة خاطئة تُرجئ الإصلاح بينما الواقع يحترق والمجتمع ينتظر.
وفي هذا السياق، لا بد من تأكيد حقيقة إن جوهر النهضة لا يتعلق بالأشخاص، بل بالرؤية والبرامج. فحتى لو اقتضت التوازنات تعيين أفراد بعينهم، فإن الأثر يُقاس بمدى التزامهم بتطبيق برنامج وطني واضح، في بيئة تقوم على الانفتاح الاقتصادي والتحول الرقمي.
والنهضة ليست رهينة بدخول منطقة ما إلى الإنتاج أو استكمال أعلى درجات الانضباط في المؤسسات، بل تبدأ من إطلاق مساري الإصلاح بتحرير الاقتصاد وضبط أداء اجهزة الدولة كلها بنظام رقمي موحد مهما كان الواقع هشًا . فبهذين المدخلين تتدفق الأموال، وتُعاد هيكلة القطاعات العدلية والتعليمية والصحية تدريجياً بثقة وتسارع. دون ذلك، لا حراك اقتصادي حقيقي، ولا ضبط فعلي، ولا موارد محلية أو ثقة دولية. وحتى لو لم تبدأ بقية القطاعات بذات القوة، فإن التراكم التدريجي كفيل باستكمال المطلوب .
لقد أثبتت التجارب العالمية أن النهضة لا تنتظر كتابة الدساتير، بل تبدأ من قرارات تنفيذية من الدولة القائمة تبني الأرضية التي يُكتب عليها الدستور لاحقاً . المطلوب هو كسر الجمود، والانطلاق من الممكن، وليس انتظار المثاليات.
إن السودان بحاجة اليوم إلى شجاعة القرار ووضوح الرؤية، لا إلى مزيد من التسويف. الطريق إلى النهضة يبدأ من إطلاق الحريات الاقتصادية وتحديث أدوات الإدارة، وما عداه تفاصيل تُبنى لاحقا على هذه القاعدة الصلبة.

محمد عثمان الشيخ النبوي