الغابات السودانية كنز أخضر غاب عن الوعي الرسمي !!

بهدوء وتدبّر
بقلم: محمد عثمان الشيخ النبوي
الغابات السودانية كنز أخضر غاب عن الوعي الرسمي !!
تتعرض الغابات السودانية منذ سنوات طويلة لتدمير بطيء أشبه بالنزيف الصامت، بفعل الإهمال، والتعدي، والجهل بقيمته، حتى تحوّل من نعمة إلى عبء، ومن إمكانية إلى تهديد رغم أهمية هذا المورد الحيوي الذي يشكّل خط الدفاع الأول ضد التصحر، ويعد ركيزة أساسية للأمن البيئي، ومصدراً اقتصادياً ضخماً .
تراجعت الغابات السودانية بشكل كارثي، ولم يعد في المشهد ما يبعث على الاطمئنان.
القطع العشوائي الجائر صار سلوكاً عاماً لا يُردع.
التوسع الزراعي غير المنظم التهم آلاف الهكتارات من الغابات النادرة.
القوانين باتت ضعيفة أو معطّلة، والاحتطاب التجاري استنزف الغطاء النباتي دون إعادة تشجير أو بدائل .
أُضعفت الهيئةالقومية للغابات وانتُزعت صلاحياتها، وتحولت إلى إدارة شبه رمزية، غير قادرة على ضبط المخالفات، أو حماية المساحات المحمية، أو مجاراة المتغيرات البيئية والتكنولوجية المتسارعة.
لم تعد الغابات قطاعاَ استراتيجياً له وزنه، بل أُقصيت عن معادلات الاقتصاد والتخطيط، وكأنها عبء يجب تقليصه لا مورد يجب تعظيمه.
ونحن في الحقيقة أمام مشكلة خطيرة تهدد بفناء مورد مهم من مواردنا يؤدي فناؤه لآثار اقتصاية وبيئية خطيرة مما يستدعي جدية عالية لمعالجته وتدارك أمره .
والحل لا يكون بالاجتماعات الخطابية أو الحملات الموسمية، بل باتخاذ مجموعة من الخطوات الجادة الحازمة السريعة متزامنة متكاملة لاستعادة ما تبقى من هذا الكنز الأخضر :
*إعادة بناء الهيئة القومية للغابات من الجذور، كهيئة مستقلة ذات صلاحيات سيادية، ترتبط مباشرة بمجلس الوزراء أو برئاسة الجمهورية، وتُمنح تفويضا كاملا وفق تشريعات واضحة لحماية الغطاء الغابي وتطويره .
فالهيئة القومية للغابات ليست مؤسسة عابرة في الجهاز الإداري للدولة، بل هي واحدة من أعرق مؤسساتها البيئية والتنموية، تعود جذورها إلى العهد الاستعماري حين كانت إدارة بسيطة، ثم تحولت لاحقاً إلى هيئة في السبعينيات، وامتد دورها من حماية الغابات الطبيعية إلى تنمية الأحراج، وإدارة إنتاج الحطب والفحم، وتنظيم الزراعة الغابية، والإشراف على الصناعات المرتبطة بالموارد الغابية. بل كانت شريكاً فاعلاً في دعم صادرات السودان البيئية، وعلى رأسها الصمغ العربي، الذي ظل أحد الكنوز النادرة عالمياً.
*تحويل الهيئة القومية للغابات من مؤسسة بيروقراطية إلى عقل بيئي متكامل .
*إنشاء مركز رقمي قومي يتبع للهيئة ويرتبط بالشرطة البيئية، والمنافذ الجمركية، والإدارات المحلية، عبر شبكات رقمية موحدة تمنع التهريب والتعدي والفساد، وتُحول إدارة الغابات إلى نموذج في الشفافية والكفاءة.
*أن تعيد الدولة رسم خريطة الغابات الوطنية، وتحدد بوضوح مناطق الحماية والتوسع والإنتاج،
*إطلاق خطة قومية للتشجير المستدام، لا على الورق بل في الميدان، تُنفذ بالشراكة مع المواطنين والمستثمرين، وتُراقب بأنظمة الأقمار الصناعية والذكاء الاصطناعي، وتُدار بالبيانات المفتوحة والتحليل الرقمي.
*فك الحصار الداخلي المفروض على هذا القطاع حيث لا يمكن إنقاذ الغابات في ظل اقتصاد مقيد مختنق .
*فتح بوابة التحرير الكامل للاقتصاد الذي يُطلق يد الدولة والمجتمع في الاستثمار والتمويل، ويُخرج القطاع الغابي من العزلة إلى قلب الحراك الإنتاجي .
*ضبط أداء الدولة ببناء الأنظمة الرقمية المؤسسية الصارمة التي تشمل كل مرافق الدولة والتي تمنع التداخل، وتحاسب المتجاوز، وتفعل القوانين، وتُعيد للغابات مكانتها كأولوية وطنية لا كرفاهية بيئية حيث لا يمكن تنفيذ هذه الحلول في ظل أجهزة تنفيذية مفككة، أو قوانين لا تُطبق. .
إن السودان مؤهل تماماً ليكون من الدول الرائدة في الاقتصاد الغابي، فالموارد متوفرة، والتنوع الإحيائي هائل، والسوق الإقليمية والعالمية متعطشة، والطلب الدولي على المنتجات البيئية يتصاعد .
الغابات ليست مجرد أشجار، بل خط دفاع استراتيجي ضد التغير المناخي، ومورد تنموي متعدد الوظائف، وميراث للأجيال المقبلة.
وما لم تتحرك الدولة بوعي استراتيجي لإعادة إحياء الهيئة القومية للغابات، ضمن رؤية شاملة للتحرير والرقمنة والحوكمة، فإن السودان سيخسر أكثر من مجرد أشجار، سيخسر أحد أعمدة بقائه، وجزءاً من هويته البيئية والسيادية.
محمد عثمان الشيخ النبوي