الهوس بالسحر والعين والحسد: حق مشروع وغلو مذموم

بهدوء وتدبّر
بقلم: محمد عثمان الشيخ النبوي

الهوس بالسحر والعين والحسد: حق المشروع وغلو مذموم

كثر اشتغال كثير من الناس وتوترهم وخوفهم الدائم لدرجة الهوس من ظواهر العين والسحر والحسد . وقد وردت هذه الأشياء في القرآن الكريم والسنة، وأثبت الشرع وجود العين والحسد والسحر، وجاء في القرآن الكريم قوله تعالى
﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ١٠٢﴾
وفي سورة الفلق: “ومن شر النفاثات في العقد” وفيها أيضاً: “ومن شر حاسد إذا حسد” ، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: “إن العين حق”. فهذه الأدلة كلها تثبت وجود الظواهر المذكورة .
ورغم ورود وثبوت هذه الظواهر ألا أن الممنوع هو الغلو المذموم والتضخيم والترويج للهلع، فقد ظهر في كثير من العصور، وحتى في وقتنا الحاضر، ما يشبه الهوس والهلع المبالغ فيه، مما أدّى إلى ظهور ظاهرة نصب عيادات ومراكز خاصة لما يسمّى بعلاج العين والحسد والسحر، وتفرغ بعض الشيوخ لها بجلسات وتكلفات وأساليب تتجاوز حدود المعقول والمنقول، وصارت في كثير من الأحيان سبباً وذريعة لأنماط وألوان من الفساد.
ومن جانب آخر أصبح الكثيرون جدا يلجأون إلى السحرة والدجالين والمشعوذين بهدف عمل السحر لغيرهم لتخريب البيوت والتفريق بين الأزواج أو تكبيل الزوج عن زواج آخر أو الإضرار بشخص بهدف الإنتقام أو لتحقيق منافع في العمل والتجارة والزواج أو لتسخير مسئولين في الدولة او حتى من فرق كرة القدم وأنديتها وهذا مشهور معروف وأصبح لكل ناد خاصة الأندية الكبرى (أنطون) لعمل السحر للفرق والأندية الأخرى .
وانساق الناس من كل الفئات وراء هذا الخط الخاطيء الخطير الذي يخرج فاعله من الدين ووصل الأمر علماء وزعماء وكبار عبر الحقب الماضية .
وكل ذلك يؤدي لأن يُصرف الناس عن التعلق بالله تعالى والتوكل عليه حق توكله، وهذا ما حذّر منه الشرع، إذ أن التوكل الحقيقي لا يكون بالاعتماد على العرافين والمشعوذين، ولا حتى بالرقية الشرعية نفسها، وإنما باتخاذها سبباً مشروعاً مع عقد القلب على التوكل على الله وحده والثقة به بعد العمل الصالح.
وقد ثبت في الصحيحين ما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال:
“انطلق نفر من أصحاب النبي ﷺ في سفرة سافروها، حتى نزلوا على حي من أحياء العرب، فاستضافوهم، فأبوا أن يضيفوهم، فلدغ سيد ذلك الحي، فسعوا له بكل شيء لا ينفعه شيء، فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا لعله أن يكون عند بعضهم شيء، فأتوهم، فقالوا: يا أيها الرهط، إن سيدنا لدغ، وسعينا له بكل شيء لا ينفعه، فهل عند أحد منكم شيء؟ فقال بعضهم: نعم، والله إني لأرقي، ولكن والله لقد استضفناكم فلم تضيفونا، فما أنا براقٍ لكم حتى تجعلوا لنا جعلاً، فصالحوهم على قطيع من الغنم، فانطلق يتفل عليه، ويقرأ: (الحمد لله رب العالمين)، فكأنما نشط من عقال، فانطلق يمشي، وما به قلبة، قال: فأوفوهم جعلهم الذي صالحوهم عليه، فقال بعضهم: اقسموا، فقال الذي رقى: لا تفعلوا حتى نأتي النبي ﷺ فنذكر له الذي كان، فننظر ما يأمرنا، فقدموا على رسول الله ﷺ فذكروا له، فقال: وما يدريك أنها رقية؟ ثم قال: قد أصبتم، اقسموا، واضربوا لي معكم بسهم”.
كما أن تكريس الخوف والهلع في نفوس المرضى يزيد من ضعفهم النفسي والروحي، ويضخم الأمور في عقولهم، لا سيما أولئك الذين يغلب عليهم الجهل بفروع الدين، فضلاً عن أصوله.
ومن أسوأ الآثار استغلال الناس مادياً، سواء بجلسات متكررة لا حصر لها، أو الترويج لشراء مواد وأدوات لا قيمة لها شرعاً ولا طبياً، بل قد يؤدي الأمر إلى ما هو أسوأ من ذلك، وهو تحويل المسألة إلى تجارة رائجة، وخلق سوق سوداء للرقى الشرعية وغيرها، بل ونفاذ البعض عبرها إلى ممارسات غير شرعية، وأحيانًا شيطانية.
إن مراكز الرقية والعيادات المتخصصة التي تطورت إلى تجارة رائجة، هي حالة جديدة لا تمت إلى الهيئات الشرعية بصلة، وقد تقود إلى فساد روحي وأخلاقي، بصرف الناس عن الله، واستنزاف أموال المحتاجين، وتأجيج الخوف والهلع. أما التوكل الحقيقي، فهو أن يؤمن الإنسان أن الشفاء والنجاة كلها بيد الله، وأن يعمل بالأسباب المباحة، دون أن يركن إلى الأسباب وحدها.
إلا أن الجيل الأول من الصحابة والتابعين لم يكونوا مشغولين بها، ولا ذاهلين عما ينفعهم في الدنيا والآخرة بسببها، فقد كانوا يفعلون ما حضّ عليه الشرع، ثم لا يبالون .
لقد تعامل فقه الصحابة رضوان الله عليهم مع الأمر بيسر وهدوء، وكان اعتمادهم الأساسي على التوكل على الله تعالى والعمل الصالح، لا الغرق في الهلع والخوف، ولا إضاعة الوقت في الانشغال المفرط بتلك الظواهر.
ومن كلام العلماء وأئمة التفسير والفقه، قال الإمام ابن القيم في “الروح”: “الرقية وأمثالها من الأسباب المباحة المشروعة التي جعلها الشرع وسيلة للتداوي، مع الاعتقاد أن الشفاء من عند الله وحده، فلا ينبغي للإنسان أن يعلق قلبه بالأسباب وإنما يعلق قلبه بالله”. وقال الإمام الشاطبي في “الموافقات”: “الغاية من التشريع الإسلامي هي تحقيق المصلحة ودرء المفسدة، ولا تتحقق المصلحة في التشريع إذا انصرف القلب إلى الاعتقاد بغير الله في جلب الخير ودفع الشر”. وهذا تأكيد على أن علاج العين والسحر والحسد يجب أن يكون ضمن منهج شرعي متوازن، لا إفراط فيه ولا تفريط، مع تمسك كامل بالتوكل على الله وحده.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “ثبت عنه في الصحيح أنه قال: {يدخل من أمتي الجنة سبعون ألفًا بغير حساب، هم الذين لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون}، فهؤلاء من أمته، وقد مدحهم بأنهم لا يسترقون. والاسترقاء أن يطلب من غيره أن يرقيه، والرقية من نوع الدعاء، وكان هو صلى الله عليه وسلم يرقي نفسه وغيره، ولا يطلب من أحد أن يرقيه”. وقال الشيخ ابن عثيمين: “قوله: لا يسترقون، في بعض روايات مسلم: لا يرقون، ولكن هذه الرواية خطأ، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يرقي، ورقاه جبريل، وعائشة، وكذلك الصحابة كانوا يرقون. واستفعل بمعنى طلب الفعل، مثل استغفر: طلب المغفرة، واستجار: طلب الجوار، وهنا استرقى: طلب الرقية. أي: لا يطلبون من أحد أن يقرأ عليهم لقوة اعتمادهم على الله، وعزة نفوسهم عن التذلل لغير الله، ولما في ذلك من التعلق بغير الله”.
وهذا يدل على أن من أعظم الإيمان ألا يلهث الإنسان وراء الرقى والطقوس المبالغ فيها، بل يتوكل على الله بإخلاص، ويأخذ بالأسباب المشروعة دون هلع أو مبالغة. إن الإيمان بوجود العين والسحر والحسد أمر مشروع ثابت بالشرع، لكن الهوس به والغلو في التضخيم، والتفرغ لمراكز الرقية وفتح العيادات للعلاج مع ما يصاحب ذلك من فساد مالي وروحي، أمر مرفوض شرعاً وعقلاً.
والعودة إلى المنهج الشرعي الصحيح تعني التوكل على الله، والابتعاد عن الخوف والهلع، والعمل بما أمر به الله، كما كان حال الصحابة والتابعين الذين لم يلتفتوا إلا إلى ما أمرهم به الشرع، ولم يفرطوا في التعلق بالرقى والرقاة. هذا هو الميزان الشرعي الحقيقي بين الحق المشروع والغلو المذموم.
محمد عثمان الشيخ النبوي