ثويبة… وهل تُختصر الحياة في غيابك؟ (حكاية 8240 يوماً من الرفقة والنور)

ثويبة… وهل تُختصر الحياة في غيابك؟

(حكاية 8240 يوماً من الرفقة والنور)

بقلم: معتصم طه

“ثويبة، أغدًا ألقاك؟ يا خوف فؤادي من غد…”
كم تردد هذا البيت في أذنيّ، مذ رحلتِ في ضحى السابع عشر من يونيو، عام ألفين وخمسة وعشرين… منذ لحظة الغياب، سكن الحزن غرف قلبي الأربع، ولم يعد هناك متسع للنسيان أو مواساة تامة.

لم تكن تلك مجرد رحلة عمر، بل كانت ثمانية آلاف ومائتين وأربعين يوماً من الفرح، والكدح، والشراكة، والمواقف النبيلة. حين اجتاحتنا الحرب، كنتِ ملجئي. فتحتِ لي بيت والدكِ، وأتممتِ ما ينقصه من دفءٍ وتدبيرٍ وأمان.

صوتكِ في البيت، خطواتكِ، فنجان الشاي تحت شجرة الجوافة، دفء ملامحكِ عند الغروب… كل شيء غادر معكِ، ولم تبقَ إلا الذكرى والدموع التي تسقي وسادتي كل مساء.

رحلتِ وتركتِ لي صفاء وعثمان وعمر، وأصغرهم علي الذي لم يكمل عامه الأول… كنتُ أشارككِ الغناء له ليغفو، والآن أغني له وحيدًا، ويبكي، وأبكي معه.

يا ثويبة، كيف لي أن أشرح للأبناء أن أمهم – التي كانت تحفظ سورتي “الرحمن” و”النجم” مع عثمان، وتشرح “التفاضل والتكامل” لأبوبكر، وتُعدّ الإفطار لمروة وصفاء – قد غادرت ولن تعود؟

كل صباح أهرب من البيت، وأجلس تحت شجرة المانجو على ضفة النهر، وحين تحين التاسعة أعود، لأكتشف من جديد أنكِ لستِ هناك…

“برهةٌ… ثم انتبه الدهر، فعفا ما رسمته!”
كما قال الشاعر عبد الرحمن صدقي، نعم… كان لي بيتٌ، فعدمته!


كنتِ تدعين بدعاء الشهيد صدام حسين: “اللهم لا تُعطني حِملاً خفيفًا، بل أعطني ظهرًا قويًا.”
وكنتِ أنتِ الظهر القوي، والسند النبيل، وحين رحلتِ… انكسر الظهر، وتبعثرت الأيام.

رحلتِ يا ثويبة، فصار قلبي أرملًا، ويتيه بين وجوه الأبناء، أبحث عن دفء صوتك، وعن أنفاسكِ في شاي الصباح، وابتسامتكِ في عيونهم.

“جنةٌ من بعدكِ بيذبل… وكل مخضرٍ فيها يصفرّ.”
وداعًا يا روضتي الغناء… وداعًا يا ظلّ قلبي وضياه.

تركتني فوق الخمسين، أبحث عن حليب صناعي لعليّ، وأهرب من المذياع حين تغني الأغاني التي كنا نرددها معًا… تركتني يا ثويبة وسط الزحام، أحتمي بكتف محمد، وأراقب دمعة مروة، وأخبئ وجعي عن عمر وبكري.

صوتكِ لا يزال في البيت… يدكِ لا تزال على رأسي… وأنا لا زلت أراكِ في تفاصيل كل شيء. لكنكِ، للأسف، لن تعودي.

رحمكِ الله يا أنيستي، يا صنو الروح، يا أم الأبناء، يا جنة عمري…

دعاء الختام:

اللهم اجعل قبر ثويبة روضةً من رياض الجنة، واغسلها بالماء والثلج والبرد، ونقّها من الذنوب والخطايا كما يُنقّى الثوب الأبيض من الدنس.
اللهم أنر مرقدها، وعطّر مشهدها، وآنس وحدتها، وانفث كربتها، وقِها عذاب القبر وفتنته.
اللهم ارزقها جنات النعيم، واحشرها في زمرة المتحابين فيك، واجعل ملتقانا بها في الفردوس الأعلى، يا رب العالمين.
اللهم اجبر كسرنا، وبلل قبرها بالرحمات، وأكرمها في الآخرة كما أكرمتنا في الحياة.