الرفاه في زمن الحرب: بين نوايا رئيس الوزراء وقيود الواقع السوداني/ بقلم: محيي الدين شجر

 

الرفاه في زمن الحرب: بين نوايا رئيس الوزراء وقيود الواقع السوداني

بقلم: محيي الدين شجر

في خطابه الأخير، قدّم رئيس الوزراء السوداني د. كامل إدريس رؤية طموحة لحكومته المرتقبة، تستند إلى شعار “الأمل”، وتركّز على تحقيق الأمن والاستقرار والرفاه الاجتماعي، والنهوض بالخدمات الأساسية، والتأسيس لاقتصاد منتج قائم على الزراعة والثروة الحيوانية والطاقة المستدامة.

كلمات كبيرة، وتطلعات نبيلة، لكنّها تصطدم مباشرةً بواقع ميداني أكثر قسوة: حرب مشتعلة تمزّق البلاد من أطرافها إلى قلبها، ومؤسسات شبه منهارة، واقتصاد منهك، ومجتمع يعيش حالات من النزوح والجوع والتشظي.

فهل بوسع رئيس الوزراء أن ينفذ هذه الرؤية؟ وهل البيئة السياسية والأمنية الراهنة تسمح بتحقيق أي شكل من أشكال الرفاه؟

الوعد بالرفاهية… في ظل الحرب؟

الواقع يقول بوضوح: لا تنمية بلا أمن، ولا رفاه في ظل الرصاص.
، وبالتالي فإن أي حديث عن الزراعة أو الطاقة أو حتى التعليم والصحة، سيبقى في خانة الأمنيات.

الحكومة القادمة لا يمكنها تجاوز الجراح المفتوحة، ولا القفز فوق الدماء النازفة لتبني وطنًا بلا جسد موحد.
الخطوة الأولى التي تسبق كل شيء: تحييد الحرب ، سياسيًا وميدانيًا.

تشكيل الحكومة: بين الكفاءات واستحقاقات اتفاق السلام

من أهم المحطات القادمة تشكيل الحكومة الانتقالية، والتي وعد إدريس بأنها ستكون “حكومة كفاءات وطنية مستقلة”. هذه العبارة طموحة، لكنها تصطدم بمحددات سياسية قائمة، أبرزها استحقاقات اتفاق جوبا للسلام، الذي يمنح الحركات المسلحة 25% من مقاعد مجلس الوزراء.

وزراء الحركات: هل سيكونون “مستقلين” فعلًا؟

وفقًا للوثيقة الدستورية واتفاق جوبا، تسمّي الحركات المسلحة وزراءها، ولكن هل ستلتزم الحركات المسلحة بنصوص الوثيقة الدستورية المعدلة لعام 2025 بان يكون الوزراء مستقلين ام تقوم بترشيح منتسبيها كما فعلت في السابق.

الآن، ومع إعادة تشكيل الحكومة، يُطرح التساؤل مجددًا:
هل ستلتزم الحركات بروح النص وتسمّي مستقلين حقيقيين؟ أم سنشهد إعادة تدوير ذات الوجوه التي أثارت جدلاً واسعًا في السابق؟

 

مراقبون يرون أن طريقة تعامل رئيس الوزراء مع هذا الملف ستكون اختبارًا حقيقيًا لشعارات الاستقلال والكفاءة. فإما أن ينحاز لمنطق الدولة، أو يرضخ لمعادلات المحاصصة القديمة التي أضعفت الأداء الحكومي.

ما هي أولويات رئيس الوزراء لتحقيق النجاح؟

لكي لا تتحول الحكومة إلى طاقم تصريف أعمال أو مجرد تجربة جديدة للفشل، فإن الأولويات الفعلية التي ينبغي أن تبدأ بها هي:

1. إعادة بسط الحد الأدنى من السيطرة على الأرض والموارد، خاصة الذهب والمعابر والموانئ.
2. تحسين الخدمات العاجلة في مناطق الاستقرار النسبي: مياه، صحة، تعليم.

3. بناء الثقة الشعبية بمحاسبة الفاسدين ومرتكبي الجرائم، لا بحمايتهم.

4. تفعيل مؤسسات الدولة المدنية في كل ما تبقّى من وطن ممكن.

5. إطلاق حوار وطني لا يُقصي أحدًا، يمهد لسلام شامل وانتخابات حقيقية.

كل ما عدا ذلك سيكون كلامًا جيد الصياغة، سيئ الأثر.

ترشيح الوزراء إلكترونيًا… هل هي خطوة جادّة أم تهرّب؟

من أبرز ما جاء في خطاب رئيس الوزراء إعلانه فتح باب الترشح عبر منصة إلكترونية لكل الكفاءات الوطنية في الداخل والخارج، وفق معايير النزاهة، والاستقلالية، والخبرة، والقيادة.

لكنّ هذه الخطوة، رغم جمالها الرمزي، تبدو سطحية في العمق، وغير عملية في التنفيذ، ومربكة سياسيًا.

فلا واحدة من الدول الديمقراطية الكبرى – لا أمريكا، ولا بريطانيا، ولا فرنسا – لجأت لمثل هذا الأسلوب في اختيار طواقمها الوزارية.
في الأنظمة الرشيدة، يتم تعيين الوزراء عبر قنوات مؤسسية، واضحة في المسؤولية، محددة في المحاسبة.

بل إن بعض التجارب المشابهة، كما حدث في أوكرانيا بعد 2014 أو داخل حركة خمس نجوم الإيطالية، لم تصمد طويلًا، وتحولت إلى مجرد “فقاعات شفافية” سرعان ما تلاشت أمام الواقع السياسي.

وفي الحالة السودانية، فإن المنصة الإلكترونية قد تمنح رئيس الوزراء غطاءً يبرر به أي فشل لاحق: “اللجنة هي من اختارت، لا أنا”.
لكن الحقيقة الدستورية والسياسية تقول: رئيس الوزراء هو من يُعين، وهو من يُحاسَب. اللجنة لا تعفيه من تبعات القرار.

ولا ننسى أن الزمن محدود: 39 شهرًا فقط

الفترة الانتقالية محددة زمنيًا بـ 39 شهرًا، وفق الوثيقة الدستورية، يفترض أن تنتهي بانتخابات عامة تؤسس للوضع الدائم.

وهذا يعني أن الحكومة المقبلة ليست حكومة برامج بعيدة الأجل، بل حكومة أولويات إنقاذ عاجلة.
وأي رئيس وزراء لا يعِ هذه الحقيقة سيقع في فخ “الوعود غير القابلة للتطبيق”.

أولويات الـ 39 شهرًا الانتقالية

في هذا الزمن المحدود، يجب أن تنحصر أجندة الحكومة في المهام التالية:

1. إطفاء الحرائق الأمنية والسياسية، لا إشعال آمال خادعة.

2. إصلاح الدولة لا بناؤها من جديد: تفعيل المؤسسات القائمة بدل الحلم بمؤسسات مثالية.

3. ضبط الموارد وإيقاف النزيف المالي.

4. تأمين الخدمات الأساسية في الحد الأدنى الممكن.

5. الإعداد الجاد لانتخابات تنهي حالة اللاشرعية المتنقلة.

خاتمة: من الأحلام إلى الحسابات

إن خطاب رئيس الوزراء حمل نوايا وطنية محترمة، وشخّص بجُرأة أزمات السودان المتجذّرة: من الفساد إلى غياب العدالة، ومن ضعف القيادة إلى التهميش الجهوي والحزبي.

لكنّه إذا أراد فعلاً أن يُكتب له النجاح، فعليه أن يُنزِل خطابه من منصة الأمل إلى أرض الممكن، وأن يعيد ترتيب أوراقه بحسب سؤال اللحظة لا بحسب رغبة الخلود.

فالتاريخ لا يرحم من صاغ الخطب، بل من اتخذ القرار الصعب في الوقت الأصعب.