مع أهل المحمل إلى مكة.. سطور من المجد السعودي تُروى على بساط الروح (١) بقلم: محيي الدين شجر

مع أهل المحمل إلى مكة.. سطور من المجد السعودي تُروى على بساط الروح (١)
بقلم: محيي الدين شجر

عندما تلتقي الروح بعظمة المكان، وتنساب المشاعر في حضرة التنظيم والدقة، تعرف حينها أنك في المملكة العربية السعودية، حيث لا يُستقبل الحجاج إلا بما يليق بكرامتهم وضخامة الحدث الإيماني.

في هذه المقالة، أنقل لكم انطباعاتي الشخصية خلال رحلتي ضمن فوج حجاج دارفور الكبرى أهل محمل السلطان علي دينار، سلطان مملكة الفور.

السلطان علي دينار كان آخر سلاطين الفور في سلطنة دارفور بالسودان، وهو معروف بكونه “كاسي الكعبة”. كان له دور مهم في صناعة كسوة الكعبة، حيث أقام مصنعاً لصناعتها في مدينة الفاشر، وعمل على إرسالها إلى مكة المكرمة لمدة 20 عاماً.
وأصبحت دارفور مشهورة بكونها “كساة الكعبة”.

ولهذا، كانت الرحلة مع أهل دارفور ذات طعم خاص، وكانت الباخرة واسا الكنزي هي التي نقلت الحجاج من ميناء سواكن إلى ميناء جدة الإسلامي.

في جدة.. استقبال استثنائي

ما إن وطئت أقدامنا ميناء جدة الإسلامي، ضمن فوج حجاج دارفور الكبرى، حتى انبهرنا بحفاوة الاستقبال السعودي.
ورود وهدايا من كل جنس ولون، ابتسامات صادقة، وعبارات ترحيب تثلج القلوب قبل الأجساد.

دخل الحجاج إلى صالة الوصول بين جداول من الترحيب المشرق الذي يشبه السعوديين، فتشعر بأنك تدخل إلى جنة أو كأنك تطل على بستان مليء بالورود والرياحين، يشرح القلوب ويسرّ النفوس.

لم يكن استقبالًا بروتوكوليًا فحسب، بل فيما يبدو طقسًا من طقوس الكرم الأصيل الذي يجري في دماء السعوديين.
لقد شعرت شخصيًا أن الحجاج ليسوا ضيوفًا عاديين، بل هم موضع عناية ملوكية.

وخلال حديثين لقناتين بالميناء، أكدت أن المملكة العربية السعودية بلد رائد، عظيم المعنى، شامخ المقام، وله مكانته الرفيعة في العالم الإسلامي.
ما شاهدته لم يكن مفاجئًا بقدر ما كان تأكيدًا لريادة هذه البلاد المباركة.

في رحاب مكة.. رفاهية متقنة وتنظيم مبهر

بمجرد وصولنا ميناء جدة الاسلامي كان كل الحجاج السودانيين على أُهبة الاستعداد للإحرام، في مشهد مهيب تملؤه النية الصادقة والخشوع.
النقل من جدة إلى مكة تم ببصات حديثة مكيفة، وكان مريحًا إلى أقصى حد.

أما أماكن الإقامة، فقد كانت على درجة عالية من الجودة: فنادق مجهزة، كهرباء لا تنقطع، مياه متوفرة باستمرار، وخدمات لا تتوقف.
ورغم وجود أكثر من مليون وستمائة ألف حاج، كانت الأمور تسير بانسيابية نادرة، نتيجة للتخطيط المحكم والتنسيق المتقن.

في البقعة المباركة كانت العين شاهدة على معجزة تنظيمية وروحانية تستحق أن تُروى.
طفرات في المسجد الحرام وتوسيعات بمنتهى التميز…
الأمن ينتشر في كل مكان، ورجاله مثقفون مرحبون، يتكلمون عدة لغات تتناسب مع ضيوف الرحمن الذين يصلون من كل بقاع العالم.

وما كان ذلك ليتحقق لولا توجيهات خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وسمو ولي عهده الأمير محمد بن سلمان، اللذين جعلا من خدمة الحجاج مشروعًا وطنيًا ذا أولوية قصوى.

مكة.. بين قِدم الرسالة وحداثة البناء

اما مكة،المدينة المكرمة فشاهدت فيها العجب العجاب.
مدينة مبنية في قلب الجبال، لكنها لا تشبه أي مدينة جبلية في العالم.
مبانٍ شامخة، مصاعد كهربائية حديثة، طوابق متعددة للسعي والطواف، وسلالم متحركة تنقلك من طابق لآخر بسلاسة، وكأنك تسير على سحابة.

أثناء أداء السعي بين الصفا والمروة، صعدنا حتى الطابق الرابع دون عناء، دون ازدحام، تحت نسائم المكيفات التي تبرد الأجواء وتحفظ سكينة الروح.

أما رمي الجمرات، فقد تحول إلى عملية سلسة، بفضل تعدد الطوابق حيث بنيت اربعة طوابق على قمة جبل  اضافة الى التنظيم الدقيق، بحيث يؤدي كل حاج شعيرته بسهولة تامة وطمأنينة.

لقد التقت في مكة كل المتناقضات الجميلة:
الحداثة والبداوة، الصحراء والعمران، التكنولوجيا والتاريخ، الروحانية والحضارة.
إنها مدينة لا تُشبه غيرها، وتُشبه فقط قدسيتها.

تنظيم غير مسبوق لموسم الحج

في هذا الموسم، حرصت المملكة على إخراج الحج بأفضل صورة.
منعت دخول من لا يحملون تصاريح إقامة، وفرضت بطاقة “نسك” الإلكترونية كوثيقة إلزامية لضمان النظام.
كل ذلك في إطار حملة إعلامية مكثفة بشعار:
“لا حج بلا تصريح”

هذا العمل الجبار يعكس رؤية ثاقبة لوزارة الحج والعمرة، واحترافية عالية لمسؤوليها الذين أداروا الحشود بمهنية نادرة.

خاتمة: بداية الحكاية

قضيت في مكة أيامًا لا تُنسى، وشهدت عن قرب تفاصيل حج 1446هـ، بكل ما فيه من عظمة وروحانية وتنظيم.
ولم يكن هذا سوى الجزء الأول من يومياتي، حيث أنتقل لاحقًا إلى المدينة المنورة، لأروي فصولًا أخرى من هذه الرحلة الإيمانية الفريدة.

تابعوني…