عطبرة لم تعد كما كانت: قصة عثمان خليفة العطبراوي.. الإنسان الذي أطعم الذكريات”

“عطبرة لم تعد كما كانت: قصة عثمان خليفة العطبراوي.. الإنسان الذي أطعم الذكريات”
بقلم عمر مختار ابراهيم زروق
يعرف الشعب السوداني جيداً الفنان الأسطوري (حسن خليفة العطبراوي)، صاحب الأغنيات الخالدة مثل “مرحبتين بلدنا حبابا” و”أنا سوداني”، التي تحوّلت إلى أناشيد وطنية تُرددها الأجيال. لكن قلّة من يعرفون أن لهذا العملاق شقيقاً اسمه (عثمان خليفة العطبراوي)، إنسانٌ بسيطٌ نَسَجَ بسخائه وحنانه ذكرياتٍ لا تُنسى في قلوب أطفال عطبرة، هذه قصة حقيقية عن رجلٍ اختار أن يكون ظلاً للخير في زمنٍ بسيط، رحل هو وجيله، تاركين وراءهم مدينةً تتوق إلى دفء الماضي.
في مطلع الثمانينات، كنّا مجموعة تلاميذ في مدرسة ابتدائية بمدينة عطبرة. كان هناك دكّان صغير يقع على حافة الشارع المقابل للمدرسة، يملكه الراحل (عثمان خليفة العطبراوي)، أو كما كنّا نناديه ببراءة الطفولة: “عم عثمان”.
كل يوم، بعد انتهاء الدروس، كنا نتسلل إلى دكانه الصغير، نبتكر حيلة جديدة لنستفزه بلعبةٍ اعتقدناها في ذلك الوقت خداعاً، لكنها كانت في الحقيقة مشهداً من مسرحية إنسانية كان هو مخرجها وبطلها عنوانها (عندما تختفي الحيل خلف الابتسامات).
كنا ندخل إليه ونقول ببراءة مفتعلة:
– “عم عثمان، عندك طحنية؟”
فيجيب مبتسماً:
– “أكيد.. تفضّلوا، كم كيلو؟”
– “عايزين ربع كيلو”
كان ينزل تحت الطاولة ليحضر صفيحة حلوى الطحنية، ويضع كميةً أقل من “ربع الكيلو” المطلوب على الميزان، ثم يعود ليكمل الوزن! لكننا كنا ننتهز فرصة انشغاله بالصفيحة، نلتهم بسرعةٍ ما وُضع على الميزان قبل أن يُكمله. كنا نضحك بخبث، ونكرر الأمر مراتٍ ومرات، وهو يتظاهر بالغباء ويضع مزيد من حلوى الطحنية كأنه لا يستطيع تقدير مقدار ربع الكيلو، وعندما يتأكد اننا شبعنا، يُظهر غضباً مُصطنعاً ويطاردنا بالكلمات:
– “كشفتكم يا شطار! اليوم ده آخر يوم!”
لكن الغضب كان يذوب في ضحكته العريضة، وكأنه يقول لنا دون كلام: “كلوا يا أطفالي، فهذا الدكّان ملككم”.
ثم نعود في اليوم التالي بنفس الحيلة وما يليه من ايام ويتكرر ذات المشهد طوال العام الدراسي تارة طحنية وتارة جبنة بيضاء.
بعد أربعين عاماً اكتشفنا الحقيقة، كنا نعتقد أننا أذكى منه، وأن حيلنا نجحت في خداع رجلٍ طيب القلب مراراً وتكراراً ،لكن مع مرور السنوات، أدركنا أن عثمان لم يكن ساذجاً، بل كان يعلم بكل حركةٍ نقوم بها. لقد اختار أن يلعب دور “المخدوع” ليُطعِم أطفالاً لا يملكون نقوداً، أو ربما ليُشبع براءة طفولتنا بلذة “الانتصار” على الكبار. كان دكانه مدرسةً أخرى نتعلم فيها معنى الكرم المُتنكّر بثوب البساطة.
عدتُ إلى عطبرة الجديدة بعد أربعين عاماً من الغياب، حاملاً ذكرياتي كحقائب ثقيلة. جُلتُ في شوارعها التي كانت يوماً تعبق برائحة الطحنية والضحكات، لكنني لم أجد أثراً لدكّان عم عثمان. اختفت الأماكن، وتبدلت الوجوه، وحتى النفوس لم تعد كما كانت. سألتُ عن الدكّان فقيل لي: “هدم منذ سنوات، وحلّ مكانه مبنى أسمنتي”. شعرتُ كأن جزءاً من طفولتي هُدم معه.
اليوم، لم تعد عطبرة نفس المدينة التي عرفتها، الناس تسابق الزمن، والأبنية ارتفعت، لكن شيئاً ما فقدناه إلى الأبد: “القلوب التي كانت تبنى بالحب قبل الأسمنت”، كلما مررت بموقع الدكّان القديم، أسمع صدى ضحكاتنا، وأرى عم عثمان يلوح لنا من وراء الزمن، كشاهدٍ على حقبةٍ كانت فيها الإنسانية عملةً لا تنضب، كان الإنسان أولاً وكل شئ آخر يأتي ثانياً.
قد تتسألون لماذا نكتب عن عثمان الأن؟ ربما لأن الزمن يُعلّمنا أن بعض الأشخاص لا تُخلّدهم الأغنيات أو الشهرة، بل “الذكريات التي يزرعونها في قلوب الآخرين” عثمان خليفة العطبراوي لم يترك وراءه أغانٍ تُغنّى، لكنه ترك أطفالاً صاروا رجالاً يحملون قصته كـ”وصية” عن زمنٍ مضى. نكتب عنه اليوم لنسجّل شهادةً بسيطة:
“عطبرة لم تعد عطبرة بعدك يا عطبراوي.. فأنت وأمثالك كنتم روحها الحقيقية”.
رسالة لأهالي مدينة عطبرة:
*أهلي الكرام: الإنسان أولاً*
*أهلي الأفاضل: لنجعل حياة بعضنا البعض أكثر سهولة*
عمر مختار ابراهيم
لروح الفقيد عثمان خليفة العطبراوي.