محمد طلب يكتب : *حكايات الحِلة**(عبد الله عيش وحاج الطاهر)*

 

الحرب اللعينة جعلتني استرجع حكايات حِلتنا القديمة و أتاملها لعلي اجد بها السلوي و استخلص منها العبر و ربما تفيدنا فيما تبقي من اعمارنا من تعقيدات ومشاكل و مستقبل مجهول لجيل قادم

القصص و شخصياتها هي حقيقية و من الواقع الذي عشناه بالقرية فالحياة هناك تشبه الكثير من حياة أهل السودان حتي الشخوص في الحكاية هم شخصيات واقعية ستجد من يشبهها في كل أنحاء السودان …

(حاج الطاهر) رجل خاض رحلة كفاح طويلة و رحل عن دنيانا راضٍ عما قدمه في حياته و مطمئن لما كّتب علي صحائفه العامرة ..

كانوا في الحلة يطلقون عنه الطرف والحكايات يقولون انه يخاف الموت ولا يحب ذكره.. ومن منا لا يخشي الموت وها هي الحِلة اليوم في هذه الحرب اللعينة خالية تماماً من أهلها أنه الخوف من الموت لا غيره لكن المحك أن (حاج الطاهر) خشيته الموت جعلته أكثرنا استعداداً له أما حبنا للمال والحياة جعلنا نتقاتل ..قالوا عنه إنه يحب المال ولا يفرط في (مليم احمر) ..نعم لكنه لم يكن بخيلاً بل كان كريماً يعتقد أن ما يفعله الآخرون هو (خمج ساااي) فقد كان رجلاً منظما ودقيقاً يكسب من عمل يده و يضع كل قرش في موضعه الصحيح ونظريته (كل شيئ بي دربو) لا يخلط بين العلاقات الاجتماعية و العمل.. يحدد هدفه ويعمل حتي يصله ثم يحدد أهدافه الجديدة وخططه الاستراتيجية لسنوات قادمات في مراجعات و نوائب الدهر تمنعه من (البعزقة) فقد عرف ببراعة كيف يدير ما يكسبه وكيف يجعله ينمو …في زمن قياسي كون إمبراطورية تاكسي تشبه شركات الاجرة الحالية وتطبيقاتها الحديثة في زمن لم تكن هذه الخدمات معروفة …لكنها عقلية حاج الطاهر الفذة رحمه الله رحمة واسعة

*عبد الله العاقب* اشتهر بين الناس ب(عبد الله عيش) كان شاباً لطيفاً و من اسمه يُستشف أنه كان يعمل و يجاهد في يومه ليكسب ما يكفيه و لم يُعرف عنه الكسل و التعطل منذ طفولته يحب أن يكسب المال و يصرفه بفهمه و حسب حاجته ..كما أنه لا ينسي حظ نفسه وشبابه في زمن كانت الحياة رغدة وحظوظ النفس في وفرة…
عمل عبد الله بكل همة ونشاط ومارس كثير من الأعمال الي أن وصل لمهنة سائق محترف وفي وقتما انضم لإمبراطورية (حاج الطاهر) مع سائقي التاكسي لفترة طويلة

مرت السنوات وباع( حاج الطاهر) امبرطوريته و اتجه اتجاهات آخري في التجارة
وظل (عبد الله) يتنقل من سائق خاص لسائق أجرة و كان لطيفاً خفيف الظل و محبوباً من الجميع اميناً و ماموناً علي كل شيئ الي أن أشتري سيارته الخاصة و بدأ يعمل لصالحه … مرت السنوات تزوج عبدالله وانجب… و حاج الطاهر أولاده صاروا رجالاً وشقوا طريقهم و زوج بناته و أضحي حمامة مسجد رحمه الله

بلا مقدمات قرر (عبد الله عيش) أن يزور بيت الله الحرام و ركض خلف إجراءات السفر بهمة وعزيمة وفي يوم سفره قاد سيارته من( العيلفون) متجهاً نحو مطار الخرطوم وعندما مر بمنزل (الطاهر عبد الوهاب) أوقف السيارة ونزل طرق الباب سائلاً عن (حاج الطاهر) ثم دخل وبعد التحية وتبادل القفشات السريعة قال لحاج الطاهر:- (يا حاج أنا مسافر لبيت الله ودائر منك العفو ) فرد عليه الحاج :- في شنو؟؟ وبكلمات جادة قال عبد الله عيش:- (تعرف يا حاج ايام شغل التاكسي ديك بتكون في قريشات دخلن علينا ) فقال له حاج الطاهر بلطفه المعروف:- (دخلن براهن كدي واللا دخلتهن انت يا الممسوخ) وضحكا مليئاً وفي هذه الأثناء اتوا بصينية الفطور فأقسم عليه حاج الطاهر (الذي يقولون عنه بخيل ) أن يفطر معه فقال عبد الله عيش أنه فاطر ومستعجل و يطلب العفو فقط وهنا اقسم عليه حاج الطاهر ( والله ما تفطر العفو ما تشوفوا) اضطر عبد الله أن يفطر كي ينال عفو حاج الطاهر الذي داهمه قائلاً:- (آهااا اكلتني في كم؟؟)
ضحك عبد الله وقال يعني يومية التاكسي دي بنكون قرصنا منها شيئ ايام الخميس وانت عارف الرأس و شغلتو)
فرد حاج الطاهر بابتسامة:- (بتقرصوا كم كدي)
عبد الله :- (يعني ريال خمسطاشر قرش بالكتير كدا طرادة ) فرد حاج الطاهر:-
يعني ما وصلت (نص جنيه) فضحك عبدالله وقال:- (لا والله (النص) دا كتير ما بنكون وصلناهو و انا كلامي دا كلو للضمان بس )
هنا ضحك حاج الطاهر حد القهقهة وقال له (والله يا عبد الله عافي ليك لوجه الله فقد كنتم معي امناء و شرفاء ولم اعرف عنكم الا الخير و انا ذاتي ما بفرط والشغلة عارفا كويس)
رد عبد الله :- (والله انا كلامي دا للضمان كدا وانت عارف راسنا الزمن داك ما بنفرط فيهو ) فقال حاج الطاهر وهو ضاحكا:- (أنا (انصاصي) عفيتا تب شوف (انصاصكم) التانية مع الخالق) ضحكا و افترقا وقد كان اخر لقاء بينهما..
نقاش راقي وجدل مفضي و محترم فيه صفاء وتصالح مع النفس وشفافية عالية المستوى و حب منقطع النظير وخوف من الله غير موجود في أيامنا هذه و عفو و إصلاح رحمهما الله

خرج عبد الله من حاج الطاهر بسرعة منشرح القلب منفرج الاسارير و ركب سيارته مبتسماً نحو ..مطار الخرطوم ثم ودع أولاده و اوصاهم بأنفسهم و أهليهم خيراً…. وصل مطار جدة محرماً … ثم مكة وهو في ذروة نشاطه الروحي والجسدي وما أن واجه البيت الحرام و الكعبة الشريفة أمامه مباشرة و هو يدعو و ينتحب في قمة النشاط الروحي فاضت روحه للخالق في مشهد عجيب …و في حالة نادرة دُفن قريباً من البيت الحرام
رحم الله عبد الله عيش وحاج الطاهر وجمع بينهما بجنات الخلد فقد كانا مثالا في الخلق الكريم و سلوك المؤمن

اختفت مثل تلك النفوس الطيبة من حياتنا و لم تعد هناك محبة وشفافية واعتراف بالذنب أو ما يشبه الذنب و نفوس تقر بأنها يمكن أن تخطئ وتصيب فلا ذنب يغتفر و سيطر علينا (بل بس)و لا حول و لا قوة الا بالله

سلام
محمد طلب
16/12/2024