“حين تصير الدولة تاجراً ومضارباً… فمن يحرّر الاقتصاد؟”

بهدوء وتدبّر
بقلم: محمد عثمان الشيخ النبوي

هل حرّر السودان اقتصاده من قبل؟

يُكثر البعض من ترديد عبارة: “لقد جرّب السودان التحرير الاقتصادي من قبل، وفشل”، وكأنّها حقيقة مسلّمة لا تحتاج إلى مراجعة أو تحقيق. لكن تأملاً بسيطاً في تاريخ الاقتصاد السوداني منذ الاستقلال حتى اليوم، يثبت أن هذه العبارة لا تعدو أن تكون خلطاً بين الشعار والمضمون، وبين النية والممارسة، وبين التحرير الحقيقي والتشويه المتعمد لمعناه.
فمنذ الاستقلال عام 1956، ظل السودان أسير نموذج الاقتصاد الموجّه، حيث تسيطر الدولة على مفاصل الإنتاج والتجارة والأسعار، وتتحكم في العملة والسياسات النقدية، وتُثبّت الأسعار وتفرض الدعم الواسع، وتُسيّر السوق بالعقلية الإدارية لا بعقلية السوق وآلياته. وحتى في الفترات التي رُفع فيها بعض الدعم أو أُعلنت فيها بعض إجراءات “التحرير”، لم يكن ذلك سوى تعديل سطحي لممارسات الدولة، دون مساس بجوهر الاقتصاد المقيّد.
في حقبة السبعينيات، جرى أول حديث عن “الإصلاح الاقتصادي” في إطار برامج صندوق النقد الدولي، لكن هذه الخطوات واجهت مقاومة سياسية واجتماعية، ولم تترجم فعلياً إلى تحرير كامل. بل ما حدث كان تراجعاً مضطرباً، تبعته عودة أعمق إلى سيطرة الدولة والاعتماد على المعونات والقروض.
في عهد الإنقاذ، رُفع شعار “اقتصاد السوق”، وبدأت الدولة في خصخصة بعض المؤسسات العامة، وسمحت نظرياً بالاستثمار الخارجي، لكن على أرض الواقع كانت السيطرة الأمنية والسياسية مطبّقة على السوق بكل مفاصله، وسعر الصرف لم يُحرر أبداً، بل ظل خاضعاً لإعلانات تأشيرية يومية، حيث تعلن الحكومة عن سعر رسمي أعلى بقليل من السوق الموازي، فيتجاوزه السوق الموازي مباشرة، وتدخل البلاد في حلقة مفرغة من اللحاق والتراجع.
هذا السلوك لم يكن تحريراً، بل هو أقرب ما يكون إلى مناكفة مع السوق وليس فهماً له. أما على مستوى القوانين، فقد كانت البيئة طاردة، مليئة بالتضارب، وغابت الشفافية والرقابة الحقيقية. الاقتصاد ظل خاضعاً لهوى القرار السياسي، لا لقواعد السوق.
حتى ما بعد ثورة ديسمبر، حين أعلنت الحكومة الانتقالية رفع الدعم عن بعض السلع، لم يكن ذلك جزءاً من مشروع تحرير متكامل، بل كان استجابة لشروط تمويل خارجية، دون استكمال البناء المؤسسي أو الرقمي أو القانوني الذي يجعل التحرير فعّالاً. ليس قضاء تجارياً قوياً، ولا شفافية مالية، ولا بنية مصرفية مستقرة، ولا استثماراً حقيقياً في أدوات الرقابة. وهكذا ظل كل ما طُبق هو مجرد تفكيك جزئي لسياسات الدعم، دون بناء حقيقي لاقتصاد حر.
التحرير الحقيقي ليس مجرد رفع دعم أو إعلان سعر صرف جديد، بل هو عملية شاملة تُحرر التجارة، وتُفتح أسواق العملات، وتُطلق الاستثمار والمبادرة، وتُلغى التسعيرات الإدارية، وتُفعل المنافسة، وتُربط الدولة كلها بمنظومة رقمية تضمن الشفافية وتمنع الاحتكار. ولا يمكن أن يتحقق ذلك دون تحرير القرار الاقتصادي من العبث السياسي، وتحرير الدولة نفسها من دور التاجر والمضارب والمُراقب في آنٍ واحد.
وقد أثبتت تجارب دول أخرى أن التحرير الشامل، حين يُطبق وفق خطة مؤسسية متكاملة ومصحوب بنظام رقمي يضبط أداء الدولة وتشريعات صارمة، يمكن أن يغيّر وجه الدولة بأكملها. رواندا على سبيل المثال، خرجت من أتون الحرب والإبادة الجماعية إلى واحدة من أسرع الاقتصادات نمواً في أفريقيا، بعد أن حررت اقتصادها بالكامل، وفعّلت الإدارة الرقمية، وأعادت صياغة قوانين الاستثمار والضرائب والقضاء التجاري. جورجيا، بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، كانت من أفشل الدول من حيث الفساد والانهيار المؤسسي، لكنها تحولت في أقل من عقد إلى بيئة جاذبة للاستثمار، بفضل تحرير السوق وربط كل مؤسسات الدولة بنظام رقمي موحد لا يسمح بالتحايل أو التضارب. بل حتى إثيوبيا، رغم التحديات السياسية، تمكنت من اجتذاب استثمارات كبرى بعد تحرير صناعتها وربطها بسياسات مصرفية وقانونية واضحة. أما السودان، فقد بقي في مرحلة الوعود والشعارات، لم يحرر، ولم يرقمن، ولم يبنِ القضاء الاقتصادي، ولم يضبط النظام الضريبي والجمركي، ولم يرفع يد الدولة عن التحكم المزدوج. لذلك فشل، لا لأن التحرير فاشل، بل لأنه لم يُجرَّب أصلاً.
لذا فإن القول بأن السودان “حرر اقتصاده وفشل” هو قلب للحقيقة، لأن ما طُبق لم يكن تحريراً أصلاً، بل كان تشويهاً للتحرير. وحتى هذا التشويه لم يُستكمل، بل تراجع في كل مرة أمام ردود الأفعال أو الحسابات السياسية. ولهذا السبب بقي الاقتصاد السوداني هشاً، متقلباً، غير قابل للتنبؤ، غير جاذب للاستثمار، وغير عادل للمواطنين.
من لم يحرر الاقتصاد كاملاً، لا يحق له أن يحكم على تجربة التحرير بالفشل. ومن لم يجرّب بناء السوق الحر الحقيقي، لا يملك أن يصف نتائجه. السودان لم يحرر اقتصاده قط، وإنما شوّه هذا المفهوم في بعض فتراته، ثم عاد لينسب الفشل للتحرير بدلًا من نسبته للتشويه.
محمد عثمان الشيخ النبوي