السوداني هل هو فاشل.. أم مكبّل ببيئة عاجزة

بهدوء وتدبّر
بقلم: محمد عثمان الشيخ النبوي
السوداني هل هو فاشل.. أم مكبّل ببيئة عاجزة
تباينت الرؤى حول الشخصية السودانية ، بين من يرفعها إلى مصاف المثال النادر في الصدق والنبل، ومن يجلدها بلا رحمة باعتبارها أسّ كل عجز وتخلف. وبين المديح المطلق والنقد المجحف، تاهت ملامح الحقيقة التي لا تُدرك إلا بعين التجرد ومنهج التحليل، لا بهوى المقارنات العاطفية أو السرديات الجاهزة.
يتميّز السوداني في مجتمعه وخارجه بصفات إيجابية أصيلة يصعب إنكارها: صدق فطري، ورحمة متأصلة، وكرم حتى في ضيق ذات اليد، وشهامة في مواضع النجدة، وحياء في التعامل، وتعاطف إنساني يجعله سريع المبادرة عند الشدائد.
وهو ميّال للسلم، مؤمن بفطرته، ويتشبث بقيم المروءة والستر وحسن الجوار.
وفي المقابل، يُلاحظ على سلوك السوداني داخل بيئته المحلية مظاهر سلبية متكررة: ضعف الالتزام بالمواعيد، والتسويف، وبطء الإنجاز، والعشوائية في الأداء، وقلة الاعتداد بالأنظمة، والميل أحيانًا لتغليب العاطفة على مقتضى العقل. وهي مظاهر كثيراً ما نُسبت إلى طبع متأصل، دون النظر إلى السياق المحيط الذي يُنتجها.
لكن الحقيقة أن هذه السلوكيات ليست طبعاً دائماً، بل هي انعكاسٌ لبيئة تُعاقب الاجتهاد ولا تكافئه، وتُقصي النظام وتُكرم العشوائية، وتُرسّخ في النفوس أن الجهد لا يُثمر، والانضباط لا يُجدي، والالتزام لا يُقدّر. فليس السوداني كسلانًا بطبعه، ولا فوضوياً بطبيعته، والدليل القاطع على ذلك هو أداؤه الفائق حين يعمل ضمن أنظمة منضبطة في الخارج، حيث يُشهد له بالكفاءة المهنية، والانضباط، والأمانة، والاستقامة.
وحتى داخل البلاد، تظهر ملامح هذا التناقض حين يُبادر بعض الشباب للعمل الجاد ويُقابل عملهم ببيئة تطفئ الحماسة وتُجهض الطموح.
ذات مرة شاركت مجموعة من الشباب قبل الحرب التي لحقت بنا، واتفقنا على زراعة البقدونس والجرجير في مزرعتي بالخرطوم على أن أموّل المشروع ويتولوا هم العمل الدائم والتسويق، على أن نتقاسم الأرباح. وقد أكملوا جهدهم الزراعي وبدأ الإنتاج، ثم نقلوا المحصول إلى السوق المركزي للخضر، لكنهم فوجئوا بضعف الإقبال وسعر الجملة الزهيد، رغم الفارق الشاسع بينه وبين سعر التجزئة. تكرر المشهد ذاته لثلاثة أيام حتى جاءوني محبطين، يروون لي مشهدًا طريفًا مؤلماً في آن، حين أشفق عليهم أحد كبار المتحكمين في السوق، كما وصفوه: ضخم الجسد، يرقد على عنقريب وبجواره حافظة ماء وجك عصير وعصا يشير بها كيفما شاء، وقد ناداهم وأجلسهم بجانبه وقال لهم نصيحة ضاحكة باكية: “يا أولادي، في بلدنا دي أي شغلة فيها تعب ما فيها فايدة”.
هذا النموذج الواقعي ليس نكتة اجتماعية، بل اختزال مرير للبيئة التي تُعاقب الجهد، وتمنح النفوذ لمن يجلس على “العنقريب” لا لمن يزرع ويروّي ويحصد. إنها بيئة تنزع المعنى من الاجتهاد، وتزرع الإحباط في درب المبادرة، وتُحبط كل محاولة جادة لربط الجهد بالنتيجة، والانضباط بالعائد، والعطاء بالتقدير.
إن السوداني لا ينقصه الصلاح المتوازن، بل تنقصه البيئة الرسمية التي تُظهر ذلك وتنميه وتُعلي من شأنه. بيئة تجعل للقانون سلطاناً، وللنظام هيبة، وللزمن قيمة، وللإنتاجية مكانة. فحين يُوضع السوداني في منظومة عادلة، ذات أنظمة واضحة، وحوافز موضوعية، وأدوات قياس دقيقة، يزدهر عطاؤه، وينضبط سلوكه، وتتسق قيمه النبيلة مع واقعه العملي.
ولهذا فإن تطوير الشخصية السودانية لا يبدأ من تغيير الناس، بل من إصلاح البيئة التي حين تصلح تُخرج أجمل ما فيهم وحين تفسد وتسوء تخرج أسوأ ما لديهم. وتلك البيئة لا يمكن بناؤها في ظل إقتصاد عاجز مكبل وكذلك لا تبني تحت رايات أجهزة دولة مرتبكة مفككة .
لذلك يكون بدهياً أن تتجه الجهود الرامية لتصحيح وضعية شخصية السوداني إلى إصحاح البيئة التي يعيش فيها بتحقيق محتمع الكفاية والعدل الذي لا يتحقق إلا بتحرير الاقتصاد تحريراً شاملاً يمكن من إطلاق الطاقات الكامنة وإتاحة الفرص الواسعة للعمل والأبداع وكذلك ضبط أداء الدولة بنظام رقمي دقيق ومتطور . فالتحرير يُحرر الطاقات المقموعة، ويُعلي من شأن المبادرة، ويخلق واقعًا اقتصاديًا تنافسياً عادلًا يُحفز على التفوق لا على الاتكالية. أما الرقمنة، فهي الضامن للعدالة والانضباط والشفافية، وربط الجهد بالعائد، وربط المخالفة بالعقوبة، دون محاباة أو فوضى.
إن العقبة ليست في قلة المال، بل في انعدام البيئة الجاذبة له. فإذا فُتحت أبواب التحرير والرقمنة، ستتدفق رؤوس الأموال الباحثة عن بيئات استثمار واعدة، وسيأتي التمويل طائعاً متنافساً، لا يطلبه أحد إلا وجده متاحاً. فما أسهل أن نصنع البيئة، وما أعظم المكافأة حين نُحسن بناءها.
بهذين المسارين تُستعاد الثقة، ويُعاد الاعتبار للقيم، وتُرشد العاطفة بالحكمة، وتُهذب الطيبة بالوعي، ويتحول الكرم إلى إنتاج، والشهامة إلى عمل عام، والحياء إلى التزام راقٍ، وتُستأصل المظاهر السلبية لا بالتوبيخ، بل بإغلاق منافذ الفوضى وفتح مسارات الاستقامة.
الشخصية السودانية لم تكن يومًا مشكلة في ذاتها، بل في ما أُحيطت به من كبت وتشويه وتهميش. ومن أراد علاج السلوك، فعليه بإصلاح البيئة التي تُنتجه، لا بإدانة من تشكّل وفق ظروف معيبة. فلا شعب صُنع للفوضى، ولا أمة خُلقت للعجز، لكن هناك إدارات عاجزة، ومنظومات خانقة، وبيئات قاتلة. والسودان ليس شعبًا فاشلًا، بل شعبٌ عظيم أُطفئت أنواره رسمياً، ولو أُزيل الغبار عن نوره وطاقاته، لأضاء بهما أفق القارة.
والبداية، يقينًا، ليست في جلد الشخصية… بل في تحريرها.
مخمد عثمان الشيخ النبوي