وزارة المالية السودانية… بين هيبة الدولة ومفتاح النهضة

بهدوء وتدبّر
بقلم: محمد عثمان الشيخ النبوي
وزارة المالية السودانية… بين هيبة الدولة ومفتاح النهضة

وزارة المالية في السودان، رغم تاريخها العريق، تحولت على مرّ العقود إلى مجرد إدارة صرف يومي، تؤدي دوراً إدارياً روتينياً، بلا رؤية اقتصادية كلية، ولا قدرة على صياغة مستقبل وطني شامل.
وحين يُذكر اسم وزارة المالية في أي دولة، يُفترض أن نتحدث عن العصب الحيوي لإدارة الموارد العامة، وحراسة الخزينة، وتخطيط الميزانيات، وضبط الإنفاق، وقيادة الاقتصاد نحو الاستقرار والرفاه.
وقد كانت وزارة المالية السودانية منذ الإستقلال واحدة من أعتى مؤسسات الدولة، تخرّج فيها كبار المخططين والمحاسبين، وأدت أدواراً استراتيجية في الستينيات والسبعينيات تجاوزت الحسابات الجارية إلى بناء السياسات العامة للدولة، لكنها ما لبثت أن دخلت في دوامة من الانكماش والتسييس وتآكل الصلاحيات، حتى انحسرت وظيفتها إلى إدارة محدودة للشؤون المالية تُدار بعقلية الإجراءات اليومية التقليدية، لا بعقلية التخطيط الاستراتيجي والرؤية المستقبلية.
أوجه التدهور كثيرة، أبرزها ضعف السياسات المالية العامة وتخبطها في التعامل مع الإيرادات والمصروفات، والافتقار إلى النظم الرقمية المتكاملة، وانعدام الشفافية والرقابة الكافية على المال العام، وتكرار الميزانيات الشكلية غير الواقعية. كما برز ما يُعرف بالتضخم الهيكلي، أي زيادة حجم الجهاز الحكومي ووحدات الدولة بصورة تفوق الحاجة الفعلية، مما يرفع كلفة التشغيل ويقلل الكفاءة، إلى جانب اعتماد الوزارة المفرط على الجبايات المباشرة بدلًا من تحفيز النمو والإنتاج، وانهيار الثقة بين المواطن والدولة بسبب سوء إدارة المال العام، فضلًا عن تهميش الكوادر المهنية وهيمنة الولاءات والمحاصصات على التعيينات والمسؤوليات .
لكن هذه الصورة ليست قدراً حتمياً، بل يمكن قلبها إذا أُعيد بناء الوزارة لتكون مؤسسة سيادية اقتصادية حديثة، ذات أنظمة متكاملة، وهيكل رشيد، ووظائف استراتيجية.
ولتحقيق ذلك، لا بد من تأسيس نظام مالي وطني إلكتروني شامل يربط كل وحدات الدولة ويحقق الشفافية الفورية، وإعداد موازنة حقيقية مبنية على النتائج التنموية لا البنود الشكلية، وفصل التخطيط المالي عن الجباية، وتوجيه الإيرادات نحو الضرائب الذكية، أي الضرائب المرتبطة بحجم الإنتاج والخدمات، لا التي تُفرض على المواطن كعبء ثابت بغض النظر عن قدرته أو مساهمته في الاقتصاد، والتمكين التام للكفاءات المهنية بلا تدخل سياسي أو توازنات قبلية.
كما لا بد من إحياء وظيفة الخزانة العامة الموحدة، وتفعيل صلاحيات وزارة المالية على كل المال العام دون استثناء، والتحول من وزارة جباية وإنفاق إلى وزارة إنتاج وتحفيز، تتبنى سياسات ذكية تحرك الاقتصاد وتخلق الوظائف، وتربط الأداء المالي بالأداء المؤسسي لكل قطاعات الدولة.
لكن كل هذه التحولات تبقى محض أوهام إذا لم تُفتح بوابتين أساسيتين تحرير الاقتصاد والرقمنة المتكاملة لكل أجهزة الدولة . فلا جدوى من أي إصلاح مالي في اقتصاد معوّق للتجارة والاستثمار وتحويل العملات، ومؤسس على التسعير الإداري لا على قواعد السوق، إذ تتحول كل النوايا الحسنة إلى أوراق عاجزة عن الحركة. فالتحرير المطلق للإقتصاد هو وحده القادر على إعادة النشاط الاقتصادي إلى حركته الطبيعية، وخلق الثقة في السوق، وتحفيز رؤوس الأموال على التوسع والاستثمار، وتمكين الدولة من الإيرادات الحقيقية لا المصطنعة. وكذلك، فإن الرقمنة الشاملة هي السياج الحامي لكل إصلاح مالي، عبر أنظمة مترابطة، وشفافية تامة، وربط مباشر بالخزانة المركزية، ومؤسسات الرقابة، والمصارف، والقطاعات المنتجةمما يسد الباب تماما أمام الفساد والتعدي على المال العام بالإختلاس والتبديد ويمنع سوء استخدام الصلاحيات . وهذه من عناصر الخراب التي يرصدها تقرير المراجع العام السنوي بأرقام يشيب لها الولدان .. ومع ذلك فإن ما يكشفه تقرير المراجع العام يعتبر نقطة في بحر ما لم يكتشف .
وزارة المالية ليست مجرد وزارة تصرف المرتبات وتحصي الإيرادات، بل هي العقل المدبر للاقتصاد، وضابط الإيقاع لنهضة الدولة. وإذا صلحت هذه الوزارة، صلحت معها سائر مؤسسات الحكم والإدارة والتنمية. أما إذا بقيت كما هي، فهي ليست مجرد ضياع فرصة، بل إنها تمثل نقطة انهيار خفية للثقة والمؤسسية والدولة ذاتها. فإما أن تتحول إلى منصة للنهضة، وإما أن تبقى مجرد إدارة رقابية عاجزة عن الوصول إلى مفاتيح النهوض والسيطرة الشاملة على المال العام.

محمد عثمان الشيخ النبوي