الذي تعلّم الحنان من البكاء… حكاية حسن وامرأة اسمها حليمة”

سودان سوا
في ذاكرة الديوم الشرقية، هناك أسماء لا تغيب… لا لثروة امتلكوها… ولا لمناصب تقلدوها… بل لأنهم كانوا ببساطة وجع المكان ودفء الأيام… وكان “حسن ود حليمة” أحد تلك الأسماء.
لم يشتهر حسن بجاهٍ ولا مال… لم يكن شاعرًا ولا فنانًا ولا حتى صاحب حرفة معروفة…
كل ما عُرف به… أنه “ابن حليمة”… وحليمة بدورها لم تكن إلا امرأة بسيطة… بكماء… حافية القدمين… ترتدي الرداء الأحمر… وتتنفس باسم ابنها الوحيد: “حسن”.
الأطفال كانوا ينادونها دائمًا:
“حليييييمة المجنونة… حليييييمة المجنونة”
وكانت هي… تبتسم بوداعة… حتى في عز قسوة التنمر… تضحك وكأن الألم لا يعنيها.
رأيتها لأول مرة في طفولتي… مشيتها المتعثرة… أصابع قدميها ويديها المشدودة… رداؤها الأحمر الطويل الذي كان يزيد من تعثر خطواتها…
أتذكر تلك اللحظة… حين توقف الأطفال عن الهتاف… وجلست حليمة على الأرض… تضرب صدرها بقبضتيها… وتبكي بكاء مكتومًا… غليظ الصوت… لا تنطق إلا كلمة واحدة:
“حسن… حسن… حسن…”
وفي لمح البصر… كان حسن يظهر…
يركض حافيًا… يحتضنها… يمسح دموعها… يسقيها الماء من السبيل… ويأخذ بيدها… ويعودان معًا عبر شارع الديم… يسيران بتثاقل… حتى تغيب صورتهما عن بصري.
لم أسأل يومًا عن تفاصيل حياتهما… فقط كنت أعرف أن مسكنهم في شرق شارع الديم… من نفس الاتجاه الذي كانت حليمة تأتي منه كل يوم… حاملة ملامحها الإفريقية… وطيبتها التي تشبه الأرض.
وعندما جاء ذلك اليوم الحزين… وانتشر الخبر كالنار في الهشيم:
“حليمة ماتت”
ارتبك الحي…
النسوة تهامسن: “وا شري… علي حسن… الليلة حليمة ماتت…”
والرجال كانوا يتنادون:
“يا فلان… الدفن في فاروق… الدفن اليوم في فاروق…”
تم دفنها في مقابر فاروق… ومنذ ذلك اليوم…
صار حسن ود حليمة زائرًا دائمًا لقبرها…
يجلس بصمت… كأن صوته مات معها…
وكان كلما غاب عن عيون الحي… يعرف الجميع مكانه…
هناك… تحت ظل مقبرة حليمة.
مرت السنوات…
وغادر حسن إلى عطبرة برفقة أحد جيرانه من أبناء الديم…
لكن…
الحنين لا يهاجر…
واليوم… بمناسبة عودته إلى “الديوم”… عادت معه كل ذاكرة الطفولة… وكل مشاويره اليومية ناحية مقابر فاروق… حيث يرقد قلبه الذي رحل مع أمه.
نحن لا ننتمي للمدن… ولا للبيوت… نحن ننتمي فقط إلى الأرض التي ضمت من أحببناهم…